إدارة بايـدن وذيـل الكـلب
د. عبد اللطيف عمران
كنتُ -مع الأسف- من بين كثيرين نظَروا إلى هزيمة ترامب وفوز بايدن نظرة خلاص من أحمق، وأمل بسياسي مجرِّب -ليس مجرَّباً بعد- ومخضرم يُرتجى أن يكون ذا ميل إلى الرويّة والتعقّل في عالم يحترق اليوم في مختلف أرجائه سياسيّاً وعسكريّاً وصحّياً. خاصةً أن إدارة الرئيس الجديد بادرت في أيامها الأولى إلى الإعلان عن إلغاء عدة قرارات وتوجّهات جائرة اتخذتها الإدارة السابقة.
كان هناك بعض التفاؤل بالإدارة الجديدة لأسباب عديدة منها ما يتصل بالاتفاق حول البرنامج النووي مع إيران، ومنها شطب الحوثيين من قائمة الإرهاب، والعودة إلى اتفاقية المناخ، وتمديد معاهدة ستارت مع روسيا، والحوار في ليبيا، وتأخّر الرد أو الاتصال بنتنياهو، والضغط على النظام السعودي جرّاء جريمة مقتل خاشقجي. إضافة إلى تقديم عدد من المستشارين والاستراتيجيين الأمريكيين توصيات وقراءات إلى بايدن تنبّه إلى أهمية اتباعه سياسة أقل عدائية تجاه سورية ولاسيّما في مجال السياسة الجائرة بالحرمان من الموارد والعوائد اللازمة لتأمين المتطلبات الإنسانيّة الضروريّة للشعب السوري.
لم يطلْ الترقّب، وبدأ التفاؤل يتبدّد بشكل جليّ خاصة مع كلمة بايدن إلى مؤتمر ميونخ الافتراضي للأمن العام في التاسع عشر من الشهر الماضي التي قدّم فيها رسالة واضحة إلى العالم مفادها أن المركزية الغربية الأطلسية هي الهدف والأمل المنشود للعودة إلى تكريس سياسات الهيمنة والتفرّد وأحادية القطب. وأن الغرب غرب، والشرق شرق، فلا بد للغرب -كما قال- من (مقاومة القهر والتجاوزات الاقتصادية التي تمارسها الصين، ومواجهة التهديدات القادمة من روسيا حيث يسعى بوتين إلى إضعاف حلف الناتو… يجب على أوروبا والولايات المتحدة أن تتولّيا القيادة بكل ثقة مرة أخرى وإزالة التوتر الذي ساد خلال السنوات القليلة الماضية لمواجهة التحديات المشتركة، فالهجوم على أية دولة في الناتو هجوم على الجميع،… فالديناميات العالمية قد تغيرت..)؟!.
بعد أيام قليلة من هذه الكلمة التي لاتزال بحاجة إلى إعادة قراءة كونها أوضح تصريح لبايدن حتى تاريخه، شنّت الإدارة الأمريكية عدواناً غاشماً على الحدود السوريّة العراقيّة استهدفت فيه ليس العراق وسورية فقط بل محور مواجهة ومقاومة التطرّف والإرهاب والاحتلال والسرقة بحلفائه وأصدقائه المحليين والإقليميين بعد منتصف ليل الخميس الفائت، عدواناً أبعد من كونه عسكرياً لجهة خلق شرخ رسمي وشعبي في العراق من خلال ادعاء إدارة بايدن التوافق عليه مسبقاً مع الحكومة العراقية، ولجهة إعلام روسيا قبل أربع دقائق فقط، ولجهة قيام الكيان الصهيوني بعدوان بعده على الأراضي السورية. ولجهة ادعاء الأمريكان خشيتهم من ضرب المصالح الأمريكية في المنطقة: الاحتلال والسرقة ودعم الإرهاب.
إذن: بعد هذا، على شعوب المنطقة، والعالم أيضاً أن ترى أن إدارة بايدن تثبت أن الأصولية الأمريكية مستمرة بديناميات جديدة -كما قال في مؤتمر ميونخ – أصولية إحيائية في معاداة الشرق: عرباً وصينيين وروساً وإيرانيين، مسلمين وأرثوذكس وبوذيين… إلخ، تستثمر في الاحتلال والتقسيم والإرهاب: نقل ودعم قطعان داعش – سرقة القمح والنفط- التغطية على جرائم قسد من جهة والنظام التركي من جهة ثانية، إنها أصولية تحيي الإرث التقليدي للأطلسية الاستعمارية بشقيها العثماني والغربي، وهي ترى في الأصولية الإسلاموية الجهادية ومعها الصهيونية رديفين يجب توظيفهما لإنهاك وتمزيق العالمين العربي والإسلامي.
في هذا السياق أتى رفض موسكو (العدوان الأمريكي الأخير، ورفض سياسة بايدن بتحويل الأراضي السورية إلى ساحة تصفية حسابات جيوسياسيّة)، ما يمهّد الطريق إلى صراع عالمي جديد واسع المدى متنوّع الأبعاد، ويؤكد لشعوب الشرق الجيوسياسي أنّ السلام والاستقرار والأمن لا يُستجدى من الغرب.
نعم: إن ذيل الكلب يبقى أعوجَ، كما يقول المثل العربي، وهذا العوج لا يعكس قوة الغرب، بقدر ما يعكس غطرسة نابعة من قلق متعدد المصادر، منها رسوخ محور المقاومة وقدرته مع حلفائه في العالم على الصمود والمواجهة والرد عاجلاً أم آجلاً، فحديث بايدن عن (أمريكا جديدة) ينبع من الخوف الماثل في الوصول قريباً إلى (عصر ما بعد أمريكا) يؤكده الانقسام الحزبي والمجتمعي والسياسي الأمريكي حين اعتبر الجمهوريون مظاهرات نيويورك وغيرها بعد مقتل جورج فلويد عملاً (إرهابياً)، وبالمقابل اعتبر الديمقراطيون هجوم الجمهوريين على الكونغرس عملاً (إرهابياً أيضاً)، وتهافت الطرفان على شراء الأسلحة… إلخ.
فلا بد -بعد هذا- لشعوب الأرض من إعلان الحاجة إلى إحياء حركة تحرّر وطنيّة وعالميّة تواجه الأصولية الإحيائية للإرث المتجدد للصهيوأطلسية الاستعمارية الذي دشّنه بايدن في كلمته، وفي أول عدوان له. وستكون مسيرة تضحية وصمود الشعب والقيادة في سورية نبراساً يُحتذى لهذه الشعوب التي أثمرت حركتها في القرن الماضي، وستثمر في معركتنا الراهنة.