جواسيس أردوغان يصولون ويجولون في أوروبا تحت عباءة الدين
محمد نادر العمري
شهدت العلاقات التركية الألمانية توتراً ملحوظاً في السنوات الأخيرة، بسبب سعي رئيس النظام التركي رجب أردوغان للسيطرة على الجالية التركية في معظم أرجاء أوروبا عموماً وبصورة خاصة في ألمانيا، والتي يبلغ عدد الأتراك فيها بين ثلاثة وخمسة ملايين مقيم، نصفهم تقريباً حاصلون على الجنسية الألمانية، فضلاً عن محاولته المتكرّرة وتدخله في السياسة الداخلية الألمانية، وقيامه بالتجسّس على معارضيه عبر المؤسسات الإسلاموية وأئمة المساجد هناك.
وفي هذا السياق كشفت بعض المعلومات الألمانية نهاية عام 2019 أن أردوغان جنّد نحو ثمانية آلاف مخبر للتجسّس على معارضيه في أوروبا، عشرة بالمئة منهم ينشطون في الدول الناطقة بالألمانية (ألمانيا والنمسا وسويسرا)، وتمكنوا من العمل في المؤسسات الرسمية، بصفة مترجمين وموظفين في دوائر الهجرة، وازداد عدد هؤلاء المخبرين، بعد محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا عام ٢٠١٦، مع ازدياد أعداد طالبي اللجوء الأتراك في ألمانيا، الذين يعتبرون حالياً في المرتبة الرابعة بين طالبي اللجوء عموماً في البلاد.
ويظهرُ تأثير أردوغان في هذه الجالية بدعوة أنصاره عام ٢٠١٧ إلى عدم التصويت للأحزاب الرئيسية الثلاثة في ألمانيا، وهي “الحزب المسيحي الديمقراطي” الحاكم، و”الحزب الديمقراطي الاجتماعي”، و”الحزب الديمقراطي الحر”، الأمر الذي اعتبرته السلطات الألمانية تدخلاً غير مقبول في الشؤون الداخلية، بعد ذلك كان سعي النظام التركي للتنقيب عن الغاز في شرق المتوسط، وتدخله في ليبيا واستفزازه القارة العجوز بورقة اللاجئين من وقت لآخر، من الأسباب التي جعلت التوتر يصل إلى ذروته، بين البلدين العضوين في حلف شمال الأطلسي (الناتو).
وينبعُ هذا التأثير من كون جميع المساجد التركية في ألمانيا، والتي يبلغ عددها ألفين وستمئة مسجد، إضافة إلى نحو ألفي جمعية إسلاموية، تتبع لـ”الاتحاد التركي للشؤون الدينية في ألمانيا” والتي تعرف باسم “DITIB”، وهذا الاتحاد مرتبط بعلاقة مباشرة مع أنقرة، التي تشرف على تعيين وإرسال الأئمة وتموّل المساجد. وفي هذا الصدد يذكر ما يُسمّى (المركز الأوروبي لمكافحة الإرهاب) في دراسة أجراها مؤخراً: أن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين، المدعوم من مشيخة قطر ونظام أردوغان، يشكّل أحد أكبر التهديدات الإرهابية على أوروبا، وليس بعيداً عن هذا التحذير قيام النمسا بإغلاق سبعة مساجد على أراضيها العام الماضي، وقالت إنها ستطرد ستين إماماً ممولاً من تركيا، في الوقت الذي تسعى فيه فرنسا للحدّ من نفوذ الأئمة الأتراك على الجاليات المسلمة في أراضيها، من خلال تخريج أئمة محليين وفق مناهج فرنسية، وبإشراف الجهات الحكومية الفرنسية.
ألمانيا بدورها ليست غافلة عن استشعار الخطر، بل هي من أولى الدول الأوروبية التي استشعرته، فقد اعتبر تقرير ألماني رسمي عام 2020 “أن تنظيم الإخوان أشد خطراً من تنظيمي داعش والقاعدة”، ومع ذلك تبدو تحركات السلطات الألمانية متأخرة وبطيئة، للحدّ من النفوذ التركي داخل أراضيها، فما الذي يحكم العلاقة بين ألمانيا وتركيا؟ وكيف تتعامل مختلف القوى السياسية الألمانية مع الحساسية الدينية، التي يمكن أن يتلاعب بها أردوغان؟.
الحكومة الألمانية تريد الحدّ من نفوذ أردوغان وسطوته على المؤسّسات الإسلاموية، ولكن في الوقت نفسه تعتبر هذه المؤسسات شريكة لها فيما يتعلق بالشؤون الدينية ولا تريد اتخاذ سلوك يعطي ذريعة لأردوغان لإثارة غضب الأتراك بصورة خاصة. “هي معضلة” حقيقية تواجه تركيا، على حدّ وصف “ماكسيميليان بوب”، الكاتب الصحفي الألماني، المتخصّص بالشؤون التركية، مضيفاً في إحدى مقالاته في صحيفة “دير شبيغل”: “من الواضح أن الدولة الألمانية بحاجة إلى شريك، عندما يتعلق الأمر بالخدمات الدينية لمواطنيها المسلمين، مثل إمامة المساجد، والتعليم الديني في المدارس، ورعاية المرضى والمسنين والمساجين، وكانت تستعين بمصادر خارجية لأداء هذه المهام، لمدة طويلة. الآن بدأ الوضع يتغيّر، فقد تأسّست برامج لتعليم الأئمة والمرشدين الدينيين في الجامعات الألمانية، وهذه خطوة مهمّة لتخفيض التأثير التركي. باختصار: إذا كانت الدولة الألمانية لا تريد لاعبين أجانب على أراضيها، مثل المخبرين التابعين لأردوغان، فعليها الاستثمار في هذا الموضوع بنفسها”.
وكان مشرّعون ألمان قد سعوا منذ عامين، لمناقشة تشريع قانون لإقرار ضريبة على الجوامع، أسوة بضريبة الكنيسة، بهدف تمويل المساجد، وذلك لإيقاف وصول الأموال الخارجية للمؤسسات الإسلاموية، وبالتالي فك ارتباط هذه المؤسسات بالخارج، ومحاربة التطرف. ودعا سياسيون ألمان خلال “مؤتمر الإسلام” الذي انعقد في برلين عام ٢٠١٨، إلى “الاعتراف بالإسلام ديناً رسمياً في ألمانيا”، لكن التعقيدات والخلافات بين الطوائف الإسلامية، شكلت عائقاً أمام هذا الاعتراف، إذ لم يتفق المسلمون أنفسهم على جهة تمثلهم، وتكون شريكاً رسمياً للحكومة الألمانية.
وهناك شكوك لدى متابعين ألمان يكمن في اعتبار التدخل التركي هو الذي عرقل جهود “مؤتمر الإسلام”، لتنصيب ممثل رسمي للمسلمين، لأن في ذلك نوعاً من تقليل النفوذ التركي وضعفاً في التأثير إن تمّ تعيين مرجعية لا تمتّ لأنقرة بصلة، أو تكون ذات علاقة مرجعية مع مملكة آل سعود الوهابية.
اليسار الألماني الذي يدعم الانفتاح ويحارب العنصرية، يجد نفسه مرتبكاً أيضاً أمام عدائه لأردوغان من جهة ودعمه المباشر أو غير المباشر للمؤسسات الإسلاموية، باسم مكافحة “الإسلاموفوبيا”، والتحدي الذي يواجه اليسار الألماني هو معالجة هذه المشكلة، وعدم السماح لأردوغان وغيره باستغلالها، في الوقت ذاته. إذن لدى اليسار وجهة نظر تتمثل في التفريق بين التصدي لسياسة دولة خارجية، وبين السقوط في خطاب عنصري ضد المسلمين.
وعن سياسة أردوغان في أوروبا عموماً وخلافاً للدولة الجارة فرنسا، احتوت ألمانيا الضجيج حول الموضوع الإسلامي، بفضل أسلوبها الاستباقي في التعامل معه، فتاريخ المسلمين في ألمانيا مختلف عما هو عليه في فرنسا أو بريطانيا، فهي لم تكن دولة استعمارية، والأتراك لا يعاملون ألمانيا بمنطق المحاسبة على جرائم الاستعمار، أو استغلال الثروات التركية. المنطلق الاقتصادي هو الذي يربط بين ألمانيا وتركيا بالدرجة الأولى، وقد رأينا سابقاً كيف انتقد رئيس النظام التركي المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وربطها بأسوأ مراحل التاريخ الألماني، لكنه عاد إليها طالباً المساعدة، عندما تدهورت الليرة التركية. وعلى الرغم من مشكلة المؤسّسات الإسلامية في ألمانيا، إلا أن المصالح الاقتصادية تتقدّم على الأيديولوجيا، حتى في حسابات أردوغان نفسه، فهو يستخدم اللين كغطاء ليس أكثر لتحقيق مصالحه، ولكن عندما تتعرّض هذه المصالح للخطر فإنه على استعداد للتخلي عن الدين في سبيل ذلك!.
ويستغلُ أردوغان إدراكه أنه شريك لا غنى عنه لدى الأوروبيين بحكم موقع تركيا الجغرافي وعضويتها في الناتو، لذلك يمارس المناورة، بل الاستفزاز أحياناً، لكنه لا يستفز لمجرد الاستفزاز، فهو يستمر في اختبار القادة الأوروبيين، ويبدو أحياناً كأنه يلعب بأعصابهم، غير أن أكبر خطأ قد يرتكبه هو نسيان الجانب العقلاني في السلوك السياسي الأوروبي، والألماني بوجه خاص. وإذا كان يملك أوراقاً، يستطيع المناورة والمراوغة بها، مثل ورقة الجالية التركية، فإن المسؤولين الألمان يمسكون بالورقة ذاتها ببراعة، والتعامل الألماني مع المسألة الدينية فيه من الصرامة والمرونة، ما يذكّرنا أحياناً بالأداء الألماني بشكل عام، في السياسة والصناعة وغيرها من المجالات، ولن تترك ألمانيا طرفاً أجنبياً يتلاعب بأمنها القومي.
ومن أبرز أشكال المراوغة التركية والمناورة بهذا الملف، أن أردوغان يدّعي بأن ما يتعرّض له المسلمون في أوروبا من اضطهاد، يشكل سبباً في التحدث باسمه، في حين أن الواقع ينفي هذه المزاعم، ولنعد بالذاكرة قليلاً إلى الوراء ونذكّر كيف تمّ دفع مظاهرات في 2017 داخل ألمانيا عندما رفضت الأخيرة استقبال أردوغان، وكيف كانت تصريحات وزير الخارجية التركي الأسبق أحمد داوود أوغلو تتضمن استثمار الحسّ الديني لزيادة عدد المتظاهرين!.