لا أمن بعد مؤتمر ميونيخ الأخير
ريا خوري
في كل عام يجتمع كبار صنّاع القرار السياسي والأمني والعسكري في مدينة ميونيخ الألمانية، حيث يناقشون مستقبل الأزمات التي يمرّ بها العالم، والتحديات الأمنية المستقبلية المهمة والخطيرة واستحقاقاتها. وفي التاسع عشر من شهر شباط المنصرم اجتمع أكثر من خمسمائة ضيف، ونحو ألف وثلاثمائة صحفي عبر الإنترنت، إلا أنّ العدد الكبير من المشاركين لا يعكس حقيقة الأزمات الحالية العديدة فحسب، بل يعكس أيضاً الحاجة الماسة إلى تبادل الأفكار والآراء بين الدول والمنظمات والمؤسسات الدولية الفاعلة.
انصبّ التركيز على موضوع إذا ما كان الغرب الأوروبي الأمريكي قد فقد تماسكه. وتُظهر مشاركة أكبر وفد من الولايات المتحدة في حدث مهمّ هذا العام أنَّ النقاش الألماني الأمريكي لا يزال ذا أهمية أساسية كبيرة وواسعة. ففي أوّل خطاب دولي كبير واسع وشامل في السياسة الخارجية منذ تسلمه منصبه، تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن بـ”عودة التحالف الحقيقي بين ضفتي الأطلسي”، في خطاب سعى بقوة إلى إعادة ترسيخ موقع الولايات المتحدة في قيادة الغرب ضد ما وصفه بـ”الهجوم العالمي على الديمقراطية”.
وعلى غير عادته عُقد مؤتمر ميونيخ للأمن في ظل غياب لاعبين أساسيين مؤثّرين كثيراً على الساحة الدولية هما: جمهورية روسيا الاتحادية، وجمهورية الصين الشعبية، حيث لم توجّه لهما الدعوة لحضوره، وهو ما يثير تساؤلاً حول آلية العلاقات التي سيتبعها الغرب تجاه هاتين الدولتين، ولاسيّما أنّ بايدن أراد أن يؤكّد لحلفاء الولايات المتحدة الأمريكية التقليديين عودة بلاده للساحة العالمية مجدّداً، وبقوّة، بعد حالة العزلة والانكماش التي انتهجها سلفه الرئيس دونالد ترامب مع حلفائه، دون أن ينسى أن يُضمّن خطابه دلالات رمزية في ظاهرها طبيعية، لكنّها تحمل في ثناياها رسائل شديدة اللهجة، ولعلّ من أبرز تلك المؤشرات وتلك الدلالات مشاركة وزير الدفاع الأمريكي لويد أوستن (67 عاماً) القائد السابق للقيادة المركزية الأمريكية، والجنرال المتقاعد صاحب النجوم في المؤتمر كرمز من رموز القوة في العالم الذي يمثّل عصا الولايات المتحدة التي ستطلقها على كل من يخالفها الرأي أو يقف في وجه مشاريعها لاستمرار هيمنتها.
المفارقة الظاهرة هنا أنّ المؤتمر الذي يُعقد دورياً في منتصف شهر شباط من كل عام في ألمانيا لبحث القضايا الأمنية المهمة والمتعلّقة بمعظم دول العالم، خالف مسماه، وحمل العديد من المخاوف من قبيل عودة التحالفات العالمية كما كانت من قبل، والتي كانت سائدة قبيل جائحة كوفيد ١٩ (كورونا)، فالدول المجتمعة أرادت المهادنة فيما بينها وفض أي خلاف أو جمود في العلاقات من أجل الوصول إلى رؤية واضحة تُنبئ بأنَّ العلاقات مع دول العالم ستعود كما كانت عليه، وربما بوتيرة متسارعة جداً إلى سابق عهدها، وخاصةً بين الولايات المتحدة والأوروبيين. وفي الوقت ذاته ستعود العديد من الأزمات السياسية الحادّة إلى سابق عهدها، وخاصة بين الولايات المتحدة وحلفائها من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى، وهو ما يؤكّده حث بايدن المستمر أكثر من مرّة لحلفائه بالاستعداد التام لمواجهة التحديات السياسية والاقتصادية على وجه الخصوص التي يواجهها مع الصين، إلى جانب اتهامه المستمر لروسيا حين قال: “إنّ الكرملين يهاجم ديمقراطياتنا.. وإن الرئيس الروسي بوتين يسعى جاهداً لإضعاف المشروع الأوروبي وحلف شمال الأطلسي”!.
تتلخّص مخرجات مؤتمر ميونيخ للأمن في رؤيتين مهمتين للمشهد العالمي، أولاهما أنّ الأوروبيين الذين كانوا يهادنون روسيا ويتعاملون معها فيما مضى بعد تخلي إدارة ترامب عنهم عادوا لسابق عهدهم بمناصبتها العداء، وهو ما يؤكده حالات طرد الدبلوماسيين الروس، وثانيهما أنّ الصين وروسيا لن تجدا بُداً من اللجوء لتحالفات جديدة لمواجهة التمدّد والتوسع الغربي تجاه مصالحهما، وبين الرؤيتين يقف الأمن العالمي مهدّداً ليكون العنوان الأبرز والأهم وهو لا أمن بعد مؤتمر ميونيخ للأمن!.