مملكتا.. النفس والطبيعة!
مملكتان، تشهّى الكتّاب والأدباء والشعراء الدخول إليهما، أولاهما هي مملكة الطبيعة، حيث الرؤية الواسعة، والبساطة، والواقعية، والهواء الذي يشيل بروائح ما حوله من نباتات وأزهار وأشجار، وثنائيات الضوء الكامل والظلمة الكاملة، والرهبة، والخوف مقابل الألفة والحنان، والجمال الذي لم تمسه يد، وفي هذه المملكة تغدو الطبيعة هي المرآة، وهي الدارة المشتهاة للروح كي تهرب من شواغل الحياة وأسئلتها الثقيلة. وثاني المملكتين، مملكة النفس، وفيها تستقر الأشياء، والأماني، والمخاوف، والهواجس، والأنّات، والأسئلة، والأحلام، وتتبدّى ثنائيات الخوف والطمأنينة، والطيبة واللؤم، والنعومة والخشونة، والقسوة والرفق، والرضا وعدم الرضا، والقناعة والجشع، وفي هذه المملكة تغدو النفس هي المرآة التي تبدو على سطحها ترسيمات السلوك البشري، لا بل تغدو النفس هي المرجعية في كل شيء.
غوته وتولستوي جعلا من الطبيعة مملكة لأدبهما، فكان الفرح، واللطف، والحنان، والهدأة، والحوار الهادئ، والأفكار، والحكمة.. هي أبرز ما يمثل أدبهما، كانا يريدان تحرير النفس البشرية بالطبيعة وما فيها من جمال وأنس وحنان، وهما يمثلان الإعجاب غير المحدود بالطبيعة بوصفها المغتسل البشري لكل ما يهمّ الإنسان ويغمّه، أي أنّ النفس البشرية الممروضة تجد الشفاء في الطبيعة، والنفس التي تكابد آلام الحيرة تجد في الطبيعة ما يؤنسها بالطمأنينة، وما يحررها من مخاوفها، فهي تستسلم لروح النبات التي لا تخالطها موجة عنف أو هدرة غضب.
لقد أراد غوته وتولستوي معاً، أن تحرّر الطبيعة، بما فيها من وفرة المؤانسة والحنان والروح النباتية، النفس البشرية من الصخب والحيرة والخوف والشواغل التي تولدها فورات الغضب حيناً وحالات الظلم حيناً آخر، وربما شارك زولا الكاتب الفرنسي كلاً من غوته وتولستوي في هذه النظرة إلى الطبيعة.
المملكة الثانية هي مملكة النفس، التي ترى أن كل شيء يصدر عنها، وأن هذه النفس مجموعة دور أو أحياز وفي كل منها تتربص طبيعة، منها الطبيعة العصبية، والطبيعة النارية.. إلخ، أي أن النفس دارة للأمزجة التي تحدث عنها الإغريق قديماً، وأن لا غنى للكاتب عن هذه المملكة، ولا بد له من ولوجها ليعرف طباع الناس وأمزجتهم وما تقودهم إليه من أفعال، ما دام الكاتب يكتب عن الناس، ولعلّ أهم من يمثل هذه المملكة هو دوستويفسكي الذي تجاهل الطبيعة وما فيها، ولهذا فإن من قرأ (الجريمة والعقاب) و(الإخوة كارامازوف) مثلاً، سيجد الغياب الفعلي للطبيعة وعناصرها، بل غياب الطبيعة وظلالها معاً، لأن مملكة النفس، لا مملكة الطبيعة، هي التي شغل بها دوستويفسكي.
والحق أن الطبيعة، وحين تكون مرجعاً للنص الأدبي، تكون الكتابة أكثر رقة، وطراوة، ونداوة، ويكون الأسلوب أكثر سهولة وسلاسة، وأنّ معاني الحكمة تتجلّى في جميع جوانب النص، حتى لتصير أشبه بالقولات الآبدة التي يقولها الكاتب لا أحداث النص، ولا ألسنة شخوصه.
أما النفس حين تكون مرجعية للنص الأدبي، فإن كل ما هو بعيد عن متناول النفس يصير بدداً وهامشاً ليس إلا، حتى النفس، وحين تضيّق عليها الشواغل مخارج التنفس، فتخرج إلى الطبيعة طلباً للهواء النقي والأمداء الواسعة البعيدة، فإنها تظل أسيرة شواغلها لأن العقل لصيق بالنفس ويمدها دائماً بشواغلها تنبيهاً وتذكيراً، في حين أن القلب هو اللصيق بالروح وكلاهما يطلبان البهجة، ولا بهجة صافية جلية إلا وسط الطبيعة. لكل هذا، فإن كل تجهم وعبوس ووعرة في الكتابة الأدبية يعود في مرجعيته إلى النفس، وستظل هذه الوعورة جليّة في النص إن لم تسلسل قيادها الموهبة الأدبية الكبيرة، لأن النفس تكتب نفسها في النص الأدبي.
حسن حميد
Hasanhamid55@yahoo.com