إمكانات غير مستثمرة
إذا كان الحضر مركزاً استهلاكياً كبيراً للسلع والخدمات، فإن الريف مركز كبير للإنتاج يقوم بتزويد جزء أساسي من احتياجات سكان المدن، هذه المعادلة البسيطة تعرّضت لخلل في العقود الماضية تحول خلالها الريف إلى مستهلك أيضاً بفعل تطور الخدمات، وغياب الخطط التنموية التي تجعل الأسرة الريفية مستقلة اقتصادياً تنتج احتياجاتها مع فائض للتصدير إلى الحضر.
ومن الطبيعي أن تتحمّل وزارة الزراعة مسؤولية تحول الريف من الإنتاج إلى الاستهلاك، لأنها أهملت إمكاناتها، وتخلت عن مهامها في زمن الرخاء!
وها هي الوزارة تعود إلى الاهتمام بالريف عبر مبادرات مبعثرة هنا وهناك، وليس في سياق رؤية أو خطة متكاملة لتحويل الريف مجدداً إلى مركز إنتاجي يوفر احتياجاتنا من السلع التي نستوردها منذ سنوات بدلاً من أن نكون من مصدريها!
ولعل (برنامج دعم المنتج الريفي السوري وتسويقه) الذي بدأته وزارة الزراعة من محافظة اللاذقية يأتي ضمن المبادرات المبعثرة، وليس ضمن رؤية أو خطة متكاملة، بل هو برنامج متأخر جداً، ويجب أن يكون أحد العناوين الرئيسية لتمكين الريف السوري من الاعتماد على الذات مع فائض للحضر والتصدير للخارج.
أليس غريباً أن تنتشر الأفران مثلاً في الريف، وأن يعتمد سكانه منذ سنوات لتأمين الخضار والبقوليات والحبوب واللحوم الحمراء والبيضاء ومشتقات إنتاجها على الحضر وعلى المستوردات؟!
ترى ماذا كانت تفعل مؤسسات وزارة الزراعة ومديرياتها بإمكاناتها الهائلة خلال العقدين الأخيرين؟
من المستغرب أن تستفيق وزارة الزراعة متأخرة جداً لتكتشف أن من مهامها التي تخلت عنها لزمن طويل (تحسين المستوى المعيشي للأسر الريفية)!
والسؤال: لماذا تدهورت المستويات المعيشية في ريف لديه إمكانات الاكتفاء الذاتي مع فائض كبير لتوريده إلى المدن؟
وإذا أخذنا القمح كمثال، فمن يتحمّل مسؤولية تحويل سورية من منتج ومصدر إلى مستورد له منذ عام 2008؟
والسؤال الأهم: من المسؤول عن تشجيع أهل الريف على التخلي عن تربية الماشية والفروج، وزراعة احتياجاتهم من الخضار الصيفية والشتوية، والاعتماد بتأمين الرغيف مثلاً على الأفران وليس (التنانير) أو الأفران الصغيرة بكل أسرة؟
هل الحضارة أن يتحول الريف تدريجياً إلى مراكز حضرية صغيرة تعتمد على ما يستورده التجار، وعلى سلع تنتجها ورشات بدائية في المدن وأطرافها؟.
كان يمكن لوزارة الزراعة مع بدايات التحول السلبي في الريف إطلاق برنامج دائم لتمويل مشاريع زراعية صغيرة تدر دخلاً للأسر الريفية، فتكتفي ذاتياً بعدد من المنتجات مع فائض يعود عليها بالمال لشراء احتياجاتها الأخرى، لكن الوزارة لم تفعلها، ترى لماذا؟.
بل ما الأولويات التي شغلتها غير تنمية الريف ومنع تحوله من منتج إلى مستهلك؟
ودعم الريف لا يكون بإطلاق مبادرات ومشاريع محدودة فقط، وإنما ضمن خطط خمسية محورها تأمين المستلزمات بأسعار مدعومة تتيح إنتاج سلع تناسب دخل ملايين الأسر السورية.!
بالمختصر المفيد: عندما يتمكن أصحاب المشاريع الصغيرة جداً، بتمويل ذاتي، كما فعلها شباب حلب، من إنتاج سلع منافسة بالسعر والجودة للمستوردة، وجاهزة للتصدير، فهو تأكيد بأن وزارة الزراعة، مثل وزارات أخرى، لم تستثمر إمكاناتها في الريف السوري حتى الآن، فلماذا؟.
علي عبود