ثورة الثامن من آذار.. التجدد والاستمرارية
إبراهيم أحمد
شكّلت ثورة الثامن من آذار منذ انطلاقتها عام 1963 نقطة ارتكاز أساسية في تاريخ سورية من خلال الإنجازات والمكتسبات التي حقّقتها ولاسيما للطبقات الكادحة، من عمال وفلاحين وحرفيين وصغار كسبة، وشملت مختلف جوانب الحياة، حيث حقّقت نهضة تنموية شاملة وقفزات كبيرة في المجالات الاقتصادية والثقافية، والتربية والتعليم، الأمر الذي ساهم في تحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة جعلت من سورية دولة عصرية قوية تعتمد على قدراتها الذاتية وثرواتها لإدارة شؤونها، ما أعطى قرارها الوطني استقلالاً تاماً لا يتأثر بأي شكل من الأشكال بالضغوط الخارجية التي مارستها وتمارسها الدول الاستعمارية عبر الترهيب والترغيب للسيطرة والهيمنة على مقدرات الشعوب.
لقد أرست ثورة البعث اللبنة الأولى في مشروع النهوض القومي العربي بما انطوت عليه من مبادئ وأسس وأهداف، فرسمت آفاق بعث الأمة ورسالتها الخالدة المتجدّدة، ومن خلال متابعة التحولات الكبرى في مسيرتها يتضح أن ثورة آذار تمكّنت من خلق منهج قومي قادر على صياغة تطلعات قومية وفق إستراتيجية محدّدة المعالم. ولأن طريق ثورة آذار المجيدة كان ومازال مليئاً بالعقبات والتحديات والصعاب، فقد استطاعت أن تطوّر القدرة النضالية من خلال ما حققته من بنيان اقتصادي واجتماعي، اعتمد على وحدة وطنية قوية، وشكّل الأساس للمواقف القوية التي تميّزت بها سورية في ظل الثورة. كانت الحيوية والتجدّد والقدرة على التعامل مع المتغيرات بموضوعية ووعي هي السمة الواضحة لمسيرة الثورة في كل المراحل التي قطعتها، بل تمكنت ثورة آذار من تحويل التحديات والأزمات إلى فرصة لتجديد روحها النضالية كما تفعل اليوم وهي تواجه تحدي العدوان الإرهابي الخارجي، حيث تتعرّض لأشرس هجمة استعمارية في تاريخها بهدف تفتيتها وإضعاف دورها في المنطقة، لكن بفضل تكاتف أبناء شعبها وبطولات جيشها وإلتفافه حول قيادة السيد الرئيس بشار الأسد، تسطّر أروع ملاحم الصمود والمقاومة في التصدي لهذه الحرب الكونية، العسكرية منها والاقتصادية، من نهب وسرقة لثرواتها وخيراتها وتجويع لشعبها.
ثورة آذار التي فجرتها قواعد حزبنا -حزب البعث العربي الاشتراكي- عام 1963، لم تكن حدثاً عابراً في تاريخ سورية والوطن العربي، بل كانت حركة مندفعة متحفزة مستمرة إلى الأمام، متجدّدة على الدوام، ونقطة تحول كبيرة ومهمّة وإنجازاً عظيماً تحقق بفضل نضال مرير خاضته جماهير شعبنا بكل أطيافها. وكانت قادرة على التعامل مع الواقع تعاملاً ثورياً تغييرياً هادفاً بفضل عزيمة حزبنا وجماهير أمتنا، فما جاءت به من تغييرات عميقة في الواقع العربي ومن خلال المعطيات التي تكرّست على أرض الواقع على مدار ثمانية وخمسين عاماً مضت، أكدت من خلالها عمق تأثيرها وشموليتها وأثبتت أنها كانت أساساً لمرحلة تحوّل عظيم وشامل استمد ديمومته من التجارب التي جسّدت حيوية حزب البعث العربي الاشتراكي ومقدرته على قراءة كل مرحلة وفق احتياجاتها الموضوعية.
وإذا كانت ثورة آذار قد واجهت الكثير من المصاعب منذ قيامها، فلأنها اصطدمت منذ البداية برواسب الماضي ومخلفاته وصارعت الظروف والمصاعب التي تحكّمت طويلاً في سنوات ما قبل الثورة. يقول القائد المؤسّس حافظ الأسد: “لقد واجهت ثورة آذار منذ أن فجّرها حزب البعث العربي الاشتراكي العقبات والصعاب وابتليت بالتحجر والتعارض في الرؤية والتناقض في الفكر، واستطاعت أن تتغلب على كل ذلك، واستصاعت أن تنجو من المزالق وتجتاز الحفر وتتخلّص من العناصر المعوقة، يحدوها إيمان بالشعب وتصميم على تحقيق أهدافه”.
وكما هو معروف، فإن سورية قبل ثورة آذار كانت تعيش حالة انعدام وزن على الصعيدين الإقليمي والدولي، فالصراعات السياسية كانت على أشدها، ونظام الانفصال الذي أجهض أول تجربة وحدوية حاول عزل سورية عن أمتها وقضاياها القومية، وحصر دورها في تلك الفترة في دائرة الانفعال مع الحدث وبه، ولم تقترب من دائرة التأثير فيه، وجاءت ثورة آذار لتضع حداً لذلك، لكنها لم تلبث أن وقعت فريسة صراع مع تلك العوامل والمحاولات المتزايدة داخلياً وخارجياً الرامية إلى تهميشها وحرفها عن مسارها الثوري الصحيح، وإجهاض تطلعاتها الوحدوية وأمانيها القومية، لكن الثورة تجاوزت هذه الأزمة بحركة 23 شباط 1966 وخرجت منها أكثر صحة وعافية لتواجه بعد ذلك عدوان الخامس من حزيران عام 1967 الذي كان أحد أهدافه إسقاط القوى التقدمية، وانعكست نكسة حزيران مزيداً من التشتّت والارتباك، والموقف غير المسؤول غابت عنه الرؤية السياسية الواضحة داخلياً وعربياً، في وقت تعاظمت فيه مخاطر الهجمة الاستعمارية والصهيونية على الوطن العربي. هذه الأمور اقتضت من القوى الوطنية التقدمية حشد طاقاتها وتجنيدها لمعركة التحرير، وكان لابد للثورة من الدفاع عن مسيرتها وتحصين نفسها وإثبات قدرتها على وعي الواقع، لأن العلاقة بين الذات والواقع علاقة جدلية يحدّد كل منهما الآخر، فلا يمكن وعي الواقع دون وعي ذات يحدّد ماهية الواقع وموضوعيته.
لقد تجلّى وعي الذات في ثورة آذار بقيام الحركة التصحيحية المجيدة التي قادها القائد المؤسّس حافظ الأسد في السادس عشر من تشرين الثاني 1970 الذي تصدّى لقيادة حركة التغيير والتصحيح داخل ثورة البعث، فأعاد للحزب جماهيره ولثورته صفاءها، وأعطى الثورة بعداً جديداً ومنحها عوامل الديمومة والاستقرار. وهكذا فقد عززّت الحركة التصحيحية عطاء ثورة آذار وقدرتها على الفعل في ظروف داخلية وعربية ودولية معقّدة، ورسّخت قاعدة تقوم عليها جهود التطوير والتحديث والإصلاح بقيادة السيد الرئيس بشار الأسد -الذي أضحى بحكمته وصموده وشجاعته عنواناً كبيراً للإباء، ورمزاً وطنياً وقومياً وعالمياً لكفاح الشعوب الحرة من أجل سيادتها وكرامتها- واستطاعت سورية في ظل قيادته تكريس وتعزيز المكاسب لجميع أبناء الوطن وتحقيق إنجازات تنموية كبيرة، وترافقت هذه الرؤية الاقتصادية والتنموية مع توجهات جديدة هدفت لمواءمة وتكييف التشريعات والمراسيم والقوانين القائمة لمواكبة التطور الهائل في رسم السياسات واستثمار الفرص وإزالة المعوقات الإدارية، الأمر الذي عززّ العمل المؤسساتي. وشهدت البنية التحتية نهضة شاملة في جميع المناطق وعلى كافة الصعد، وأضحت سورية قوة فاعلة لا يستطيع أحد تجاوزها، واضطرت حتى القوى المعادية إلى الاعتراف بهذه الحقيقة والتعامل معها.
في الذكرى الثامنة والخمسين لثورة الثامن من آذار تترسّخ في وجدان جماهير الشعب المعاني الحقيقية للثورة، ويتعمّق في وعيهم وانتمائهم مواجهة الهجمة الإرهابية العدوانية التي تشارك فيها أطراف دولية وإقليمية وأنظمة عربية جعلت من نفسها أداة لتنفيذ أجندة غربية لاتخدم سوى الكيان الصهيوني، بهدف تفتيت كيان الدولة وإخراج سورية من دائرة الصراع مع الكيان الصهيوني وتصفية المشروع القومي، وفرض حصار اقتصادي وسرقة خيرات وممتلكات الشعب السوري من نفط وغاز وحبوب وثروات باطنية، بهدف تركيع السوريين وتجويعهم وفرض سياسة الأمر الواقع عليهم، إلا أنه ورغم ما لحق بها من تخريب ودمار لمنجزات ثورة العمال والفلاحين، وما تعّرض له شعبنا من حصار اقتصادي وسرقة لقمة عيشه، فإن سورية وبفضل تضحيات بواسل جيشنا وصمود أبناء شعبنا والتفافهم حول قيادتهم، أفشلت المؤامرة، وستخرج عزيزة، قوية، مرهوبة الجانب.
وبالتالي ستبقى ثورة آذار، التي كانت رداً طبيعياً على الانفصال الرجعي وتلبية لطموحات الجماهير في القضاء على الاستغلال وسرقة خيرات الشعب السوري، مستمرة ومتجدّدة، وستتصدّى جماهير شعبنا لكل من يحاول العبث بسورية وإلغاء دورها المقاوم للمشروع الصهيو– أمريكي. وستبقى ثورة آذار مستمرة بعطائها عبر تطوير آليات عملها بما يخدم متطلبات الجماهير في إعادة بناء ما دمّرته الحرب الظالمة على سورية، مهما اشتدت الخطوب وكبُرت التحديات.