معضلة الثورة بين المصطلح والواقع
د. عبد اللطيف عمران
يشهد عالم اليوم انزياحاً ومفارقةً في مصطلح (الثورة) واستثماراً مؤذياً له قياساً إلى ما عرفه العرب وغيرهم في العصر الحديث من ثورات حقيقيّة على الاستعمار العثماني، والأوروبي، والاحتلال الصهيوني، فكانت ثورات حركة التحرر الوطني والاستقلال العربية والعالمية مثالاً ساطعاً للثورة بين المصطلح والمفهوم.
لكننا اليوم في حاجة إلى مفاهيم أكثر من حاجتنا إلى مصطلحات، لأسباب عديدة منها أن التضليل الإعلامي والغزو الثقافي طالما عبث بالمصطلحات لطرح مفاهيم مناقضة لمصالح المجتمع والدولة، الوطن والأمة، ومنها أيضاً أن المصطلح ثابت، بينما المفهوم مرن مع مرونة الواقع وديناميته، فالمصطلح دلالة على شيء وتعريف محدد له، بينما المفهوم هو التجلي الواقعي والمعرفي لهذا المصطلح.
لقد صار مصطلح الثورة في علم الاجتماع السياسيّ المعاصر بائداً، وتقليدياً صرفاً، نظراً إلى الزيف الذي أحيط به واستهدفه، ولذلك نجد الثقافة مع إطلالة العالم الجديد بعد سقوط الاتحاد السوفييتي وانهيار جدار برلين تستخدم مصطلح الثورة في المجال غير السياسي، فيُقال ثورة المعرفة والمعلومة، ثورة الاتصالات، ثورة التكنولوجيا الرقمية…
ونحن نجد مصطلح الثورة في قطرنا راسخاً مستقراً في الثورة العربيّة الكبرى ضد الاستعمار العثماني عام 1916، والثورة السوريّة الكبرى ضد الاستعمار الفرنسي عام 1925، والثورة الفلسطينيّة الكبرى ضد الاحتلال الصهيوني عام 1936، وثورة الثامن من آذار ضد الانفصال والتجزئة والتخلف والرجعيّة عام 1963، … ثم نجد فيما بعد (حركاتٍ) كحركة 23 شباط 1966 وحركة التصحيح عام 1970، (وحركة) مسيرة التطوير والتحديث عام 2000.
والحقيقة نحن اليوم أمام أجيال طالعة إلى الحياة يصعُب عليها استلهام حديثنا الواقعي والإيجابي مثلاً عن ثورة الثامن من آذار، فنعاني أمامها من معضلة الإفهام البنّاء لأن هذه الأجيال لا تزال تعاني منذ أكثر من عشر سنوات من تشويه مفهوم الثورة وحقيقة تراثنا الثوري كقوى وطنية تقدمية، وهي تعاني الأمرّين من المنعكسات السلبية والمدمّرة للآمال التي تنشدها من الواقع والمستقبل، ذلك بسبب التضليل الثقافي والإعلامي، والمؤامرة على التراث الثوري الحقيقي المستمر على شكل فاعل وواضح ومتجلّ في (مقاومة) الاستعمارين العثماني الجديد، والصهيوأطلسي، والذيل الرجعي العربي وما يتصل به من لهاث ودعم للاتفاقات الأبراهاميّة، فهذه المقاومة مستمرة هي المفهوم الحقيقي المتجلي لأصالة مصطلح الثورة.
في هذا السياق، سياق استهداف محور المقاومة ثقافة ونهجاً واعتباره (إرهاباً)، تمّ إزاحة مفهوم الإرهاب الحقيقي الصهيوأطلسي الرجعي العربي وأدواته في الداخل نحو مفهوم جديد هو (الثورة والنضال من أجل الحرية وإسقاط النظم غير العميلة)، على غرار ما يقال عن مفرزات ما يسمى بالربيع العربي أو (الثورة السورية) التي صار واضحاً اليوم أنها لطخة عار في وجه العالم المتحضر، لأنها البوتقة النتنة التي اختلطت فيها المطامع الاستعمارية المتجددة بإيديولوجيا داعش والقاعدة، حيث لم يدعْ مشغلوها وأدواتها موبقة إلا وارتكبوها وسجّلوا فيها أرقاماً قياسية في العمالة والارتزاق والقتل والتدمير والنهب وتعميم الفهم المنحرف للإسلام والسطو على تعاليم الدين الحنيف، وعمل ذاك التضليل على تحويل الإرهابيين إلى مقاتلين من أجل الحرية، ومندوبيهم إلى محاورين واعدين من أجل صياغة دستور وبرنامج سياسي وطنيين؟!
في هكذا واقع، غدا مفهوم الثورة محرجاً لمصطلحها الذي لم يكن في الأساس زئبقياً، والقصة ليست قصة تسمية وشعارات، فجماهير شعبنا وحزبنا بالأمس واليوم وغداً بتضحيتها وصمودها تعيد إحياء المفهوم الواقعي لمصطلح الثورة الأصيل الذي أنجزه الأجداد والآباء في 1916، 1925، 1936، 1963 ضد (الجديد) من الاحتلال والإرهاب: العثماني والأطلسي والصهيوني، ضد الرجعية والتخلف والانفصال والتجزئة، ضد التبعيّة والخيانة والإرهاب، فكنّا ولا نزال وسنبقى خلف ثورة الشعب والحزب بقيادة الرئيس المناضل بشار الأسد: نثور ونقاوم ثقافة ونهجاً، لنهزم الإرهاب والاحتلال والتجزئة ونحقّق الانتصار المنشود
إن استمرار الثورة الحقيقية لا يعني عدم مجابهتها تحديات جساماً قد لا تنتهي، ولا عدم وقوعها في أخطاء مراجعتها ضرورية لنجاح إعادة البناء والإعمار المادي والمعنوي، وتجاوز مختلف مظاهر هذه الردة التاريخية البغيضة.