“يحدث في غيابك” دعوة للأمل ومواجهة الألم بالحب
جمهورٌ كبيرٌ احتشد لمشاهدة العرض الجماهيري الأول لفيلم “يحدث في غيابك” في قصر الثقافة بحمص، التجربة السينمائية الأولى للمخرج سيف الدين سبيعي وإنتاج المؤسسة العامة للسينما عن حكاية سامر محمد إسماعيل المقتبسة عن قصة واقعية حدثت في مدينة حمص، وهي ليست هي المرة الأولى التي تحضر فيها أحداث السنوات العشر العجاف التي مرّت عليها في السينما السورية، فقد سبق وحضرت أيضاً في فيلمي “مطر حمص” لجود سعيد، و”دم النخل” لنجدت إسماعيل أنزور الذي يستعيد فيه حكاية استشهاد عالم الآثار السوري خالد الأسعد في تدمر، من ضمن الأفلام العديدة التي تناولت الأزمة السورية خلال السنوات العشر الأخيرة بتوقيع مخرجين عدة، منهم باسل الخطيب في “مريم”، و”دمشق حلب”، وعبد اللطيف عبد الحميد في “أنت وأنا وأمي وأبي” وأيمن زيدان في “أمينة”، و”مسافرو الحرب” لجود سعيد وغيرهم أيضاً.
ولا يرجع استحضار أحداث هذه المدينة في السينما تحديداً إلى مصادفة عفوية، بل فرضته تلك الأحداث المتخمة بالأسى والألم الذي لم يعرفه السوريون في عصرهم الحديث، وكانت حمص ساحته الأولى بتنوعها الاجتماعي والديني المحرّض على التوثيق وتوالد الأفكار التي تعيد تكوين الأحداث درامياً وفق رؤى مختلفة.
حكاية الفيلم مازالت آثارها تؤرّق حياة الكثيرين ممن ينتظرون عزيزاً غيّبته تلك الفوضى المقيتة، تعود إلى بدايات سنوات الأزمة عندما قام المسلحون باختطاف باص للمعلمات اللواتي ينتمين إلى أحد الأحياء المصنّفة مؤيدة للدولة السورية، ومن بينهن زوجة الشخصية الرئيسية في الفيلم الصحفي الذي يقوم باختطاف فتاة يعتقد أنه يستطيع المقايضة بها للإفراج عن زوجته وطفله الرضيع، ليأخذ الفيلم شكل المونولوج الحواري الذي من خلاله يستعيد المشاهد بعض تفاصيل تلك الأحداث التي عايشها عن قرب.
رغم فقر الفيلم بالشخوص، والأمكنة والتفاصيل قياساً إلى حجم قصة الاختطاف وآثارها، إلا أنه يتكئ على غنى الحكاية بالمقولات والإيحاءات الإنسانية المعبّرة عن رؤية مستقبلية مضيئة للحياة، التي يمكن الانطلاق منها لتأسيس حياة جديدة.
شقة على خطوط التماس، كما كانت تُسمّى، هي منزل الصحفي الذي تدور فيه تفاصيل الحكاية كاملة، لا تخرج الكاميرا منها سوى بمشهد واحد قصير يتكرّر مرتين يصور لحظة إعدام المسلحين لأحد الرجال، لذلك كان المتسع ضيقاً أمام المخرج للاشتغال على الصورة ومنحها دوراً أكبر للارتقاء إلى مستوى الحكاية بتشعباتها النفسية والاجتماعية، فكان الاعتماد الأكبر على مقدرة بطلي الفيلم يزن خليل وربا زعرور لشحذ كل إمكاناتهما وانفعالاتهما والاشتغال المتقن على الشخصية بملامحها وتكويناتها الانفعالية، لتجنيب الفيلم رتابة المكان الواحد وتكرار اللقطات المتابعة لحياتهما اليومية لمدة ساعة ونصف الساعة مدة زمن الفيلم، ولهذا يمكن اعتبار الفيلم رسالة ورؤية بسيطة تفتش عن ضوء في ذاك النفق المظلم الذي أدخلتنا الأزمة في غياهبه، أكثر منه توثيقاً تسجيلياً لأزمة سنوات طويلة لم تنته آثارها إلى يومنا هذا.
يستعيدُ الفيلم في مشهده الافتتاحي أجواء الحرب الأهلية اللبنانية من خلال صوت زياد الرحباني المنبعث من شاشة التلفزيون المستقر على محطة شام إف إم الاذاعية، تلك المحطة التي كانت المصدر الأول الذي يستقي منه سكان حمص أخبار محافظتهم ويومياتهم، وهذه الاستعادة لأحداث لبنان وربطها بأحداث حمص كمقارنة، جاءت لإضفاء ملامح خاصة على أحداث حمص تميّزها عن غيرها من جغرافيا سورية مرّت عليها الحرب، هي مقارنة فرضتها التسميات والأطياف والمصطلحات والمفردات التي راجت في أحداث لبنان وحمص، ومنها تسمية “خطوط التماس” والاصطفافات المذهبية التي أسبغت على أحياء المدينة.
في مقولة الفيلم دعوة للأمل والتأسيس لحياة جديدة يفرضها المصير المشترك الذي يحتّم علينا العيش والاستمرار معاً، كما يحتّم علينا مواجهة الألم بالحب الذي هو السبيل الوحيد لتجاوز مآسينا، ومداواة جراحنا، وهكذا تحوّلت قصة اختطاف فتاة وتهديد ذويها بقتلها إن لم تعد زوجته وطفله سالمين، إلى قصة حب، خصمان كانا بالأمس يواجهان مصيراً مشتركاً عندما اقتحم الشقة مسلحون مجهولو الانتماء “لتعفيش” كل محتويات المنزل، وإبقاء كتب المكتبة التي يفترشها الاثنان قبل الخروج إلى حياة جديدة أساسها الثقافة والحب.
آصف إبراهيم