القصيدة المترجمة.. مغامرة ولكنها ليست مستحيلة!! الحفاظ على ثراء الدلالات التخيلية والحسية مهمة صعبة!!
“البعث الأسبوعية” ــ جُمان بركات
الشعر وعاء مزركش خازن للغة العذبة منمق بالذهب والجواهر، ولكن النقل عن شعر الآخرين يتطلب من الأديب المترجم قدرة عالية على فهم النص وروحانية اللغة الأم التي ينتمي لها، والكثير من التفاصيل عن حياة الشاعر المبدع لهذا النص، وهمُّ ترجمة الشعر هو جزء من هموم الترجمة بشكل عام، لذلك كان لنا وقفات مع بعض المشتغلين في هذا الحقل للتعرف أكثر على الشعر المترجم وتفاصيل العمل الإبداعي المتعلق به، وإن كان الشعراء يفضلونه أم يكتفون بالشعر العربي.
الشعر وردة
شكلت ترجمة الشعر قضية جدلية تجاذبت فيها الآراء، وتوافقت حيناً وتنافرت أحياناً، لما لها من خصوصية تختلف عن التراجم الأدبية والعلمية؛ وعن ذلك قالت الشاعرة هيلانة عطاالله:
ترجمة الشعر ليست عملية تقنية بحتة ولا تقوم على نقل المعلومة من لغتها الأم إلى اللغات الأخرى، لأن الشعر ليس تراكيب لغوية فقط، بل هو تحميل اللغة طاقات الشاعر الروحية.. الشعر فن يحلق بتجاذبات الروح وبفيض المشاعر الإنسانية، ويقوم بناؤه على المخيال والإيقاع الموسيقي، ما يجعل للمفردة أبعاداً ودلالات من خلال الانزياح والصورة، فالمفردة في الشعر إيحاء مجازي يحتمل التأويل، والجملة الشعرية أبعد ما تكون عن التقريرية، لأنها تشف عن المعنى بغلالة تتجلى بالأدوات الفنية المتنوعة للشعراء. وعلى سبيل المقاربة أقول: الشعر وردة نستشف عبقها ويأسرنا جمالها دون الإمساك بها، بل هو شمس نرى ضياءها ونشعر بدفئها دون الاقتراب منها، فكيف للمترجم أن يترجم هذا الشعور وهذا الأثر؟ إنها مهمة صعبة للغاية، بل هي مغامرة، ولكنها ليست مستحيلة؛ فعندما يتمكن المترجم من الغوص في عوالم الشاعر ومن الارتقاء إلى مستوى آفاقه، فإنه يتمكن من نقل الكينونة اللغوية للقصيدة بما أمكن من حمولتها الروحية والشعورية إلى اللغة الأخرى، وبما أمكن من إيقاعاتها الصوتية ومنظومتها اللحنية، وإن كانت هذه الأخيرة معرّضة لفقدان الكثير من سماتها.
الشاعر الانكليزي شيلي أقر باستحالة ترجمة الشعر، مشبهاً ذلك بنقل الزهرة من تربتها إلى مزهرية، في حين أن عالم اللسانيات الروسي رومان جاكبسون كان ميالاً إلى إمكانية ترجمة الشعر من خلال إعادة كتابة القصيدة وخلقها من جديد.
ومع كل هذا، تعتبر ترجمة الشعر ضرورة لا بد منها تصب في مجال التبادل الثقافي والتلاقح الإبداعي بين الشعوب ليكون الحوار الحضاري في أبهى حلة إنسانية، وليكون الشعر كائناً مجازياً ولكنه يسير على قدمين أثيريتين؛ فلولا الترجمة لظل شعر كل أمة حبيساً بين جدرانها، فكم هو جميل أن تنقل القصيدة عدوى النشوة الإبداعية ورسالة الحب والجمال والسلام في أنحاء هذا الكوكب المرهق بالهموم والصراعات والحروب!!
جدلية الخيانة والأمانة
وبعيداً عن جدلية الخيانة والأمانة في التراجم الشعرية التي ناقشها الباحثون عقوداً من الزمن ولم يحسموا أمرها بعد، أضافت عطالله: الشاعر هو الأقدر على ترجمة الشعر من أي شخص آخر شريطة أن يتمتع بمعرفة عميقة للغة التي يريد ترجمتها ولحضارة الناطقين بها، ولموروثهم الثقافي والاجتماعي والفني؛ ولعل الشعوب المتقاربة من بعضها في هذا المجال يسهل فيها تبادل التراجم الشعرية، وشاهدنا على ذلك نشاط حركة الترجمة الشعرية بين اللغتين العربية والفارسية تاريخياً وحتى الآن؛ وهنا أهيب بالمترجمين للشعر الإيراني الالتفات إلى الشعر الإيراني الحديث الذي قطع شوطاً في الحركة الحداثوية وعدم الوقوف عند الشعر الإيراني الصوفي والعرفاني أو عند نتاجاتهم القديمة التي واكبت دخول رسالة الإسلام إلى بلاد فارس.
ظلمنا بناءنا الشعري
وعن تجربتها قالت: لي محاولات في ترجمة بعض القصائد العربية إلى الفارسية وبالعكس، وأعمل على تطويرها لترتقي إلى مستوى جمعها في كتاب، علماً أني عضو في لجنة القراءة في اتحاد الكتاب العرب، وقد ساهمت كثيراً في دراسة التراجم الشعرية العربية – الفارسية، وساعدني على ذلك عوامل عدة منها اطلاعي على الكثير من النتاج الشعري الإيراني القديم والحديث، وخاصة بعد تعرفي على شعراء إيرانيين سمعت شعرهم منهم مباشرة، وأقمنا حوارات بناءة فيما بيننا، وساعدتني القواسم المشتركة بين اللغتين العربية والفارسية وبين الموضوعات التي يتناولها شعراء الحضارتين؛ وبالنسبة للشعر الفارسي الموزون فقد ساعدني على ترجمته أنه منظوم على البحور الخليلية العربية التي نظم بها الشعراء العرب، ولا أنسى دور العلاقات الوطيدة بين سورية وإيران، والتي كان من شأنها تكريس التواصل وتبادل الزيارات بين شعراء البلدين، والاطلاع على بيئة الشعر من مصدرها الحي؛ والأمر نفسه ينطبق على الترجمة العربية – الروسية. وهنا لابد من إقامة التوازن بين الترجمة من لغات أخرى إلى اللغة العربية وبين الترجمة من العربية إلى اللغات الأخرى، فالملاحظ أننا نظلم بناءنا الشعري العملاق، حين لا نعطي الأهمية لنقله إلى الأمم الأخرى، ونحن العرب الذين أجادوا في الشعر أكثر من أمم كثيرة، وشكلت الحركة الشعرية لديهم بناء متسامقاً وثق حياتنا الثقافية والاجتماعية والسياسية بعين المبدعين، بعيداً عن التوثيق التاريخي الذي يعتريه أحيانا مجافاة الحقيقة أو تسييسها. وعلى جانب ذي صلة بموضوعنا، لابد أن نترجم شعر الشعوب الأخرى إلى اللغة العربية، وأن نترجم شعرنا العربي حتى إلى لغات أعدائنا، فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى معرفة عدونا أكثر من صديقنا، فمن أقدر من الشاعر على التأثير بهذا الآخر؟
تعديل المعنى
بدوره، قال الشاعر سامر الشغري: أعتقد بوصفي شخصاً يكتب الشعر أن هذا النتاج الإبداعي يتميز عما سواه من الأجناس بأنه الأكثر نجاحاً في التعبير عن ذات صاحبه، وعن روحه ووجدانه، بصدق ودون تكلف، فيشعر القارئ أو المتلقي بما يدور في وجدان الشاعر بأيسر وأسرع طريقة ونجاعة كبيرة لجهة التأثير.
ولأن الشعر المترجم يكون منقولاً على لسان، أو بقلم شخص ثان غير كاتبه، فإني لا أجد فيه ذلك الصدق والتعبير الذي أجده بالشعر المكتوب بلغته الأم، بل هنالك شعر ترجم لأكثر من لغة حتى وصل إلينا بالعربية، والمترجم يعيد صياغة القصيدة بل، ويتدخل فيها وإن كان بدرجات متفاوتة، وعندما يقوم بنقل القصيدة إلى العربية مثلاً فإنه يقوم بتعديل بعض المعاني التي تتواءم مع عقليتنا ليوضحها أكثر، بل وربما يعيد صياغتها كاملة، كما فعل أحمد الصافي النجفي مع “رباعيات” عمر الخيام.
وأضاف الشغري: قليلة هي القصائد المترجمة التي راقت لي.. أذكر منها ترجمة بعض قصائد ملحمة الشاهنامة للفردوسي، وبعض قصائد الشاعر الإيراني حافظ الشيرازي.. ربما لأن الشعر الفارسي فيه شبه بالعربي، فضلاً عن نصوص من الشعر الغنائي لمؤلفين فرنسيين وأمريكيين معاصرين، وربما لذلك لم ترق للغربيين قصائد المتنبي رغم أننا نعتبره من أعظم شعرائنا، لأنه عندما ترجم لم يعجبهم ذلك التفاخر والتباهي واللغة الخطابية العالية التي ليست شائعة في أدبهم. ولكن في الختام: قراءة الشعر المترجم هي جهد المقل، وهي أيسر بكل تأكيد من أن نتعلم لغات عدة لنقرأ الشعر في آسيا وأوربا وأفريقيا وأمريكا.
لعب بالألغام
لا شك أن ترجمة الشعر من لغة إلى أخرى أشبه بعملية اللعب بالألغام، أو المشي بينها، هكذا وصفها الشاعر والمترجم منير خلف، وتابع قائلاً: تبقى المسألة رهن مهارة المترجم الذي ينبغي أن يكون على دراية تامة بالأدب المترجم عنه وإليه، وأن يكون مبدعاً قبل أن يكون مترجماً ليكون على قدرٍ كافٍ بنقل الميراث العاطفي فكراً وإيقاعاً موسيقيّاً يكونان كفيلين بإدخال القارئ إلى الحالة الإبداعيّة التي كتب فيها المنجز الإبداعيّ صاحب العمل المترجم عنه؛ واعتقد أن ترجمة الشعر العربي إلى لغات أخرى تختلف كثيراً كون اللغة العربية تتميز عن غيرها من اللغات بدلالاتها الكثيرة وإيحاءاتها الغزيرة التي تفقد كماً هائلاً من جمالياتها عندما تترجم إلى لغات أخرى، وعدم قدرة تلك اللغات على احتواء إشارات العربية، ناهيك عن الموسيقا النابعة من تناغم حروف الهمس والجهر التي تتميز بها العربية دون غيرها.
أما تجربتي في ترجمة الشعر الكردي إلى العربية فهي تجربة روحية لها جذور تفكير كردية، كأناي التي هي نحن، فعندما أقوم بنقل أزاهير الروح الكردية إلى الوجدان العربي العريق فإنني أزرع همزات وصل بين ثقافتين تؤصّلان حضارة السوري المشرقة في بناء جسور محبة وتواصل لنهضة الحب وعمارة الأرض.
مترجم الشعر شاعراً
لكل نوع من أنواع الترجمة قانونه الخاص وحريته الخاصة أيضاً، ذلك ما قالته بدورها المترجمة كاتبة كاتبة:
لترجمة الشعر لَبِنات أساسية تجب مراعاتها والحفاظ عليها، منها عمق اللغة الشعرية من جهة، والقيمة الجمالية للمؤثرات الصوتية من جهة أخرى، وبمعنى آخر: الاهتمام بالدقة والأمانة في نقل المضمون مع المحافظة على الإيقاع واحترام شكل القصيدة، فالشاعر بورخيس يقول: “يجب على مترجم الشعر أن يكون شاعراً بالدرجة الأولى”، فهي عملية إحياء للقصيدة المراد ترجمتها، وهذا يتطلب من المترجم إعادة ابتكار طرق الشاعر في التفكير والتخيل والتعبير عن النفس، ويستدعي الكثير من الصبر والبحث والولوج إلى أعماق شخصية الشاعر؛ ومن الجيد أن تقود الترجمة القارئ للرجوع إلى القصيدة المصدر وتقديرها بشكل أفضل كما في حال الإصدارات ثنائية اللغة مثلاً؛ وتكمن الصعوبة الرئيسية في ترجمة الشعر بإعادة اتحاد المعنى والصوت الذي يميّز الشعر، وفي إيجاد ترجمة متكافئة ودقيقة للأبيات الشعرية التي عادة ما تحمل في طياتها معاني متعددة؛ لكن في حال تعدد المعاني وغموض اللغة الشعرية، قد يكون من المستحيل نقل المعنى في الترجمة التي تعني الفهم أولاً، وبالتالي يكون التفسير بعد توضيح بعض الصور والتلميحات الميتافيزيقية؛ ومن الممكن عادة التعرف على المعنى – أو المعاني المتعددة – للقصيدة، بغض النظر عن شكلها وتوافقاتها، ما يضطر المترجم للاختيار من بين معانٍ عدة محتملة؛ كما يواجه المترجم صعوبة في الحفاظ على ثراء الدلالات التخيلية والحسية في القصيدة، وصعوبة في الحفاظ على الاحتمالات المختلفة في الترجمة، سواء كان طابع القصيدة جاداً أم ساخراً. فـ بول بن سيمون يقول: “إن الكلمة الشعرية أسيرة لغتها الأصلية تماماً”، ويقول الجاحظ في كتابه “الحيوان”: “الشعر لا يمكن أن يترجم، ومتى حوّل تقطّع نظمه وبطل وزنه”.
وأضافت كاتبة: يقول إيف بونفوا: “سبب وجود الشعر، لأننا أردنا أن يُسمع الجزء الرنان من الكلمات”، فالحفاظ على صدى القافية في الترجمة أمر مرغوب به للأذن، ولا ينبغي اعتباره شيئاً ثانوياً، بل على العكس، فإن احترام المقطع أمر أساسي يؤثر تأثيراً مرئياً وسمعياً يجعل الموسيقى تنبثق من الكلمات المترجمة، كأن نخلق تكراراً لبعض الأبيات أو شعوراً بالحركة نحو النهاية قبل الانتكاس إلى الصمت، لأن هذا الإيقاع في الترجمة يساعد القارئ على الحفظ (الشعر المترجم سريع الحفظ)، ومن المؤكد أن الشاعر يريد من المترجم أن يجعل قصائده تهتز من عمقها مثل أوتار الآلة.