مجلة البعث الأسبوعية

مقهى “خبيني” بدمشق.. حكاية نواطير!!

“البعث الأسبوعية” ــ تمّام علي بركات

تتجمع غيوم الذكريات في خواطر السوريين كثيراً، هذه الأيام الصعبة، وما أن تلمع في وجدانهم شرارة ذكرى أليفة ما حتى تختلج مشاعرهم المختلطة، متقلبة على إيقاعاتها العديدة، بين حنين صافٍ يترفع عن الفرح والألم معاً، وفرح ينبعث من جنبات تلك الذكرى لورودها في البال، وألم ربما حولته الأيام بمرورها إلى مسرب عزيز من مسارب اليقين؛ والذكرى – كما هو معروف علمياً – تندلع دون سابق إنذار، قد تثيرها نكهة ما، أو رائحة ساهمة في الهواء، وقد يثيرها أيضاً مرأى مكان له حكايته المحفورة في الوجدان، وما أكثر الأماكن التي تُشعل الذكريات في نفوسنا نظراً لارتباطنا العاطفي بها.

واحدة من ذكريات السوريين المحمولة في جيناتهم، ولها أثرها في وجدانهم، علاقتهم بالأمكنة؛ ومقهى “خبيني” من الأماكن التي لها حكايتها الماشية في الدم حرفياً، حكاية مقهى عتيق يحرك مشاعر عزيزة، قاسية، أليفة، كونه كان شاهداً على قطعة من .

يمكن للذاهب إليه أن يصله من طريقين مختلفين: الطريق القادم من ساحة باب توما، مروراً بـ “القيمرية”، وصولاً إلى منطقة “النوفرة” التي يقع “خبيني” على كتفها، وأيضاً عبر سوق الحميدية وصولاً للساحة التي تقع قبالة الجامع الأموي، والذي يقع المقهى قبالة بوابته الجنوبية الكبيرة، وتشرف عليه، من شاهق، “المئذنة البيضاء” التي تُعرف أيضاً بـ “مئذنة عيسى”.

لإسم المقهى “خبّيني” – باللهجة الشامية – حكاية تعرفها أجيال عديدة من السوريين، حتى صارت متداولة كطرفة بينهم؛ وهذه واحدة من سمات السوريين العظيمة: تحويل الألم بمرور الأيام إلى مادة للتفكه والتندر.

قصة التسمية تختزن بين كلماتها أسى وحزناً وقهراً، وترسم ضحكة أيضاً، وهي تعود لقرن مضى، لزمن قاس وصعب، زمن “السفربرلك”. وكم هي متعددة آثار وقوع هذه الكلمة في النفس، حتى أن من يشاهد المقهى بجدرانه الحجرية الحانية التي بُنيت بسواعد الدمشقيين، منذ أكثر من 100 عام – كما قال صاحبه السيد محمد كامل وتار- يمكن له أن يقرأ عليها الكثير من الحكايات التي شهدت عليها وخزنتها في بال حجارتها، ومنها في ذاك الزمن حكاية “السفربرلك”، حكاية وجع وبطولة، وجع وحزن، لما تركته تلك الحقبة من جروح عميقة حفرها الزمن على الجدران والأصوات والحكايات.. هذا كله يشعله هذا المكان الدمشقي الأصيل خلال لحظة، ودون أي تمهيد.

كان الجنود العثمانيون، الذين احتلوا البلاد منذ قرون، يجوبون شوارع دمشق وحاراتها – كما كانوا يفعلون في مختلف المدن والقرى السورية – بحثاً عن أولئك الذين لم يلتحقوا بجبهات الحرب العالمية الأولى، بعد الفرمان الذي أصدره السلطان محمد رشاد، عام 1914؛ فكما هو معروف لم يلتحق الكثير من السوريين إلا قسراً، ومنهم من لم يلتحق أبداً، ومنهم من التحق بثوار الغوطة، ومنهم من بقي لحداثة سنه مختبئاً في تلك الحارات، وهؤلاء اعتمدوا على بعضهم البعض، وعلى الأزقة والزواريب لتكون حليفتهم أيضاً في هذا الشأن؛ ومقهى “خبيني”، برواده الدمشقيين، كان من الأمكنة التي ساعدتهم على الهرب من ملاحقة “الجندرما” العثمانية، وهذا لأسباب متعلقة بموقع المقهى، الذي كان يختفي ما بين آخر سوق القباقبية والقوس المؤدي إلى منطقة النوفرة؛ وعندما كانت تلك الدوريات تقوم بعمليات المداهمة، وتحاول الإمساك بأحدهم، كان يجري بسرعة، وهو يصيح “عباية.. عباية”، الشيفرة المعروفة بين الدمشقيين بكونها صوت إنذار حتى هذا الوقت، وهذا ينبه الآخرين للتخفي: منهم من كان يلجأ إلى المقهى وهو يطلب من صاحبه أن يواريه، قائلاً: “خبيني.. خبيني”، ومن هنا حمل المقهى اسمه، وهذا الدور لعبه مقهى “خبيني” – من جانبه – على أتم وجه زمن الاحتلال الفرنسي، حتى أن حكاية يرويها الرواد عن سائح فرنسي كان يزور المكان، وما كان منه حين وصل إلى المقهى، حتى توقف وبكى وهو يتأمله، ثم روى أنه كان من بين الجنود الذين كانوا يفتشون المقهى بحثا عن الثوار أربعينيات القرن الماضي.

المقهى ما زال على حاله لجهة البناء والتصميم الداخلي والخارجي، يتألف من صالة داخلية مستطيلة الشكل تبلغ مساحتها قرابة الثمانين متراً، بداخلها سبع طاولات، كلّ منها يتسع لشخصين، وهي موزعة على حائط المقهى، بالإضافة لمصطبة خارجية تتسع لسبع طاولات أخرى يجلس إلى كلٍّ منها شخص واحد، وهو ما يُفسر الحميمية التي يشيعها المقهى عند رواده شبه الدائمين، أولئك الذين لا يقصدون سواه؛ وهناك ذكريات كثيرة بين رواد المقهى عمن كان بينهم في الأمس، وغيبه الموت اليوم، ولهذا قاموا بتحويل هذا الفقد لما يشبه الطقس الذي كانت الحميمية – وما زالت – من بواعثه، وهي تظهر جلية بعد فقدان أحدهم، حيث تُخلد ذكرى المتوفى بالاحتفاظ بـ “نبريش” نرجيلته، وعدم استخدامه ثانية، وتعليقه على جدران المقهى، بعد إعطائه رقماً متسلسلاً، ليصبح الراحل رقماً تدور حوله أحاديث الذكريات.

يجذب مقهى “خبيني” بموقعه وألفته، وبأسعاره أيضاً، الناس البسطاء الذين يفضلونه على مقاهي المنطقة السياحية، تلك الفجة في بذخها، حتى أن تسمية “المقهى” ليست من طبيعتها، وهي مستخدمة فقط لأشغال الاستعراض الفلكلوري لا أكثر.