فرحان بلبل والتراث.. مرّة أخرى!!
“البعث الأسبوعية” عبد الكريم النّاعم
كتاب جديد للمسرحي المعروف فرحان بلبل، صادر عن الهيئة العامّة السوريّة للكتاب، 2020، ويقع في أربعمئة صفحة من القطع المتوسط، وقد جاء عنوانه: “صياغة حديثة لنصوص قديمة في الأخلاق والسياسة والحرب والبلاغة”، وبعنوان فرعي بين قوسين (من رسائل البُلغاء). وفي هذا الكتاب، يتابع بلبل ما ابتدأه بـ “رسالة الغفران” التي حوّل نصوصها القديمة العصيّة على قرّاء هذا الزمان إلى لغة معاصرة، إنْ صحّت التسمية، دون مساس بجوهر المعنى، وهذا ما فعله في تعاطيه مع رسائل البلغاء، ولأنّني لم أطّلع اطّلاعا يؤهّلني للكلام على تلك الرسائل، عكس ما واجهتُه في “رسالة الغفران”، فإنّني أستطيع القول إنّه نسج بالنّول ذاته ما نسجه في هذه الرسائل، وسأتوقّف عند النقاط التالية:
– الرسائل التي عالجها فرحان بلبل في كتابه هذا هي “رسالة الصحابة”، و”الأدب الصغير”، و”الأدب الكبير”، لابن المُقفَّع، و”وصيّة وليّ العهد” لعبد الحميد الكاتب، و”الرسالة العذراء” لإبراهيم بن محمد المدبِّر، و”قانون البلاغة” لمحمد بن حميد البغدادي.
– أثناء مطالعتي لمؤلفات ابن المقفّع أذهلني الكمّ الكبير الذي خلّفه وهو لم يبلغ الأربعين من العمر، وربّما أقلّ، ولكنّني توقّفت طويلاً عند الكثير من المعاني التي أوردها على أنّها له، وهي تتقاطع معاني مع ما قاله الإمام عليّ، لأنّ الكثرة في التشابه، كما أرى، لا يمكن أن تكون ممّا يسمّونه وقع الحافر على الحافر، وأرجّح أنّ ابن المقفّع اطّلع على الكثير ممّا تركه هذا الإمام الفذّ في البلاغة، وربّما لم يُشر إلى ذلك لأنّ حال “العلويين” لم يكن أحسن ممّا كان عليه أيام الأمويّين، بل عانوا من الملاحقة على أيدي العبّاسيّين ما هو أشدّ وأعتى، وكان محظوراً أن يتداول الناس شيئاً من ذلك التراث، ولربّما هذا الذي دفع ابن المقفّع إلى سلوك ذلك السبيل، كما أنّه ربّما شكّل غطاء له ليقوم بما قام به؛ وقد اتّصلت بالصديق فرحان بلبل وبسطت له هذه الملاحظة، وركّزتُ على عهد الإمام للأشتر النخعي حين ولاّه مصر، فهو دستور بحق، فقال لي إنّ ابن المقفّع سئل ممن تعلّمت البلاعة؟ فقال: “مِن خُطَب ألأصلع”، يعني عليّاً.
– أمّا عبد الحميد الكاتب فأنت أمام رجل دولة بكلّ ما يعني ذلك من الإلمام والإحاطة، والعمق، وحُسن التدبير، وهذا يشير إلى ضرورة التنبّه إلى الكفاءات القياديّة التي اعتمدها حكّام ذلك الزمان، وهو أمر جدير بالملاحظة، والمتابعة، والاستفادة، لأنّ رؤى بعضهم تصلح لكلّ زمان ومكان، وهذا ما يرفعهم إلى مصاف عباقرة العالم.
– في “قانون البلاغة” سنجد أنفسنا أمام نظريّة متكاملة في الشعر، وخصائصه، وتفريعاته، وأغراضه، وكيفيّة بنائه، ممّا يصلح أن يطبَّق بعضه الآن في دراساتنا النقديّة.
– لقد أذهلني صبر فرحان بلبل، وقدرته على البحث، فما يمرّ اسم شاعر إلاّ ويذكر في الهامش طرفاً من حياته، معرِّفاً به، وإذا كان بيتاً مُفرَداً، أو عدّة أبيات أشار على أنّها من قصيدة كذا التي مطلعها كذا، ويذكر اسم المرجع، ومّن مؤلّفه، فإذا علمنا أنّ ذلك قد ضمّ مئات الأسماء أدركْنا حجم المعاناة، والمتابعة، والصبر، والجَلَد لدى المؤلّف، ولعلّه استمدّ هذا الصبر من صبره على إخراج المسرحيّات أو تأليفها؛ وما أدري كيف استطاع أن يصل إلى كلّ ذلك، لأنّ ثمة مؤلّفات أشار إليها صادرة في معظم أقطار هذا العربي الكبير، وخمّنت أنّه ربّما استعان بالكمبيوتر، لأنّ الكتب التي ذكرها لا يمكن أن تجتمع في مكتبة رجل واحد، قد تجتمع في مركز ثقافي، أو دار كتب وطنيّة، أمّا في مكتبة بيتية فما أظنّ أنّ ذلك سهلاً.
الصديق فرحان بلبل أغبطك على هذا الجهد الذي لم تَبْدُ فيه باحثاً ومحقّقاً، بل وضليعاً في علوم النّحو، حيث احتاج الأمر إلى ذلك، لاسيّما في شرح معاني القصائد الواردة، هذا أفق آخر تُرفع فيه راية لك، ومن أسف أن يجيء هذا في زمن لم تعد القراءة فيه ميزة، أو أفقاً تَضرب فيه الأجنحة، ورغم ذلك فسيظلّ ما قدّمته علامة فارقة، ربّما استفادت منه أجيال قادمة في زمن نهوض قادم.
وقفتُ عند ذكر معاوية ابن أبي سفيان، إذْ جاء في الهامش أنّه أسلم قبل الفتح، والمعروف أنّ معاوية وأباه هما من الطّلقاء الذين أسلموا بعد فتح مكة، وأظنّ أنّ المصدر الذي اعتمده قد وَهم في ذلك، أو أخطأ، فنقله كما جاء.