المايسترو صلحي الوادي.. رحلة طويلة لموسيقي عراقي حقق في دمشق حلم تأسيس الأوركسترا الوطنية
“البعث الأسبوعية” ــ المحررة الثقافية
في أثناء قيادته لإحدى حفلات الأوركسترا السيمفونية الوطنية في قصر الأمويين للمؤتمرات، في ضواحي دمشق، عام 2002، سقط صلحي الوادي أرضاً، إثر جلطة دماغية. نقل إلى مشفى الشامي، ومنه إلى منزله، ليستمر صراعه مع المرض حتى وفاته عام 2007.. خمسة أعوام رافقه فيها حلمه حتى في صمته، وكان أعضاء الأوركسترا مرافقين له في هذيان مرضه الذي غيّبه عن محيطه دون إدراك لما يدور حوله.. اقترن اسم المعهد العالي للموسيقى في سورية باسم صلحي الوادي، الموسيقي الذي أسس معهدين لتعليم الموسيقى في دمشق: الأول كان للموسيقى العربية، وأنشئ عام 1961، والثاني متخصص بالموسيقى الكلاسيكية، وأنشئ عام 1990، ليحقق الأستاذ حلمه بتأسيس فرقة الأوركسترا الوطنية السورية، ويجوب بها العالم.. رحلة طويلة لموسيقي عراقي خلدته ألحانه، وحفظ اسمه موسيقيو الجيل الجديد في سورية.
تأسيس المعهدين والأوركسترا
في العام 1961، مع عودته إلى دمشق، كُلّف صلحي الوادي من قبل وزارة الثقافة بوضع نظام للمعهد العربي للموسيقى، الذي خرّج فيما بعد عشرات الموسيقيين السوريين، أبرزهم عازف البيانو غزوان زركلي. وفي عام 1964، أسس أول فرقة موسيقية شرقية مكونة من طلاب المعهد، وقدمت أولى حفلاتها عام 1964. استمر عمل المايسترو صلحي الوادي في تعليم الموسيقى، وعُيّن كعميد للمعهد حتى عام 2001، وقدم أول عمل أوبرالي بالتعاون مع أوبرا لندن، كما قدم لأول مرة في سورية، أوبرا “إيناس ودايدو” عام 1996.
حكايته مع الموسيقى هي حكايته مع الحلم الذي رافقه منذ الصغر.. هذا الفن المضمخ بروحانية تسمو بالذات فوق ماديات الحياة، وتطلقها من أسر التفاصيل المملة إلى عالم الجمال الرحب، هذا الحلم دفعه لدراسة الموسيقى أكاديمياً وقيادة الأوركسترا في الأكاديمية الملكية، التي تخرج منها عام 1960، حيث كان المعهد العربي للموسيقى – المؤسس حديثاً حينها – يقدم كل الدعم للحياة الموسيقية السورية من خلال الطلاب الذين أتيح لهم الانتساب للمعهد العالي للموسيقى؛ ورغم أن الموسيقى لم تحظ باهتمام الكثيرين، لكنها تطورت في زمن قصير، إذ تمكن من خلال المعهد العربي للموسيقى أن يؤسس لدراسة أكاديمية لهذا الفن.
لغة إنسانية
آمن المايسترو الوادي بالعمل الجاد، فأعطى كل ما بوسعه، ساعياً لإرساء أسس علمية تقوم عليها موسيقانا، وينتشر عبقها في العالم، لأن الثقافة – من وجهة نظره – تعبّر عن حضارة البلد الذي تنشأ فيه بكل أبعادها المادية والروحية والفكرية، وحضارة الأمم تقاس بما تعطي هذه الأمم من إبداع في المجال العلمي كالاكتشافات والاختراعات، وفي المجال الروحي كالإبداعات الفنية والأدبية؛ ومن الضروري الاطلاع على فنون الشعوب الأخرى انطلاقاً من الخصائص المميزة لكل أمة، والتي يمكن أن تنتقل إلى العالمية حين تجد من يتبناها ويعيد خلقها؛ وكان الموسيقار الوادي يصرح دائماً بأن الفن الذي يقدم هو فن جاد، وحتى يستمر في الحياة لا بد من دعمه، وإلا فقد ماهيته، وفشل في تحقيق هدفه، مثلما حصل مع فرق فنية عالمية كثيرة بسبب عدم دعم الدولة لها، لأن الفنان لكي يعطي بإخلاص يجب أن يتفرغ لفنه، وهذا يتطلب أن يكون مؤمّناً اقتصادياً حتى يمكنه الإبداع، خاصة في مجال كالموسيقى، هذا الفن الهام في تهذيب النفوس والارتقاء بالروح.
الموسيقى العربية
كان الراحل يصف الموسيقى العربية بشكل عام بأنها غنائية، أي تعتمد على عنصر واحد هو اللحن، على الرغم من محاولات دمج هذه العناصر كلها، فللموسيقى عناصر أساسية ثلاثة لازمة وضرورية، هي الانسجام الهارموني واللحن والإيقاع. وبرأيه، يمثل الطفل المادة الخام والخصبة للتجاوب مع الأشياء الجميلة في الحياة، وبقدر ما نقدم له من الفنون الجميلة بقدر ما نوسع مداركه ونجعل منه إنساناً فاعلاً في المجتمع، والتربية الموسيقية يجب أن تشجع في البيت والمدرسة، وأن يقوم على تدريسها والتدريب على نوتاتها الشباب المثقف والمتخرج من المعاهد الموسيقية.
أما واقع الموسيقى العربية فيتجلى بنظرة الإنسان العادي الذي لم يحصل على الثقافة الفكرية والروحية الإنسانية التي تجعله يتفاعل مع الموسيقى ويهتم بها، فالكثيرون ممن حصلوا على شيء من الثقافة ما زالت تنقصهم ثقافة الفنون، فما تحتاجه الموسيقى هو جمهور ناقد يميز بين الجيد والسيئ في الفن، وملحن يمارس النقد الذاتي ويبحث في أعماق أسرار روحه وعقله، وعازف قادر على ترجمة تلك الرؤية وتحويلها إلى ممارسة على مستوى السلوك والعلاقات الإنسانية.
السينما والتلفزيون
وضع صلحي الوادي الموسيقى التصويرية لعدد من الأفلام السينمائية في سورية وخارجها، وبدأ بتأليف الألحان والموسيقى التصويرية مع فيلم “سائق الشاحنة”، عام 1966، وألف الموسيقى التصويرية لفيلم “رجال تحت الشمس”، عام 1970، ثم فيلم “المخدوعون”، عام 1972، وفي العام نفسه وضع الموسيقى التصويرية لفيلم “السكين”، واستمر في العمل ذاته إذ ألّف، في عام 1974، الموسيقى التصويرية لفيلم “اليازرلي”، ثم فيلم “يوم آخر”، عام 1979، وفيلم “مطاوع وبهية”، عام 1982، وأنهى مشاركاته السينمائية في العام 1991 مع فيلم “طائر الشمس”؛ كما وضع صلحي الوادي الموسيقى التصويرية للمسلسل السوري “اللوحة الناقصة”، عام 1996.
مسيرته في كتاب
ضمن المشروع التوثيقي الذي يعمل عليه المركز الوطني للفنون البصرية في دمشق، تم إطلاق كتاب “الموسيقار والإنسان المايسترو صلحي الوادي”، تضمن كلمات لعائلته ورفاقه ولموسيقيين تتلمذوا على يديه وإعلاميين ونقاد ومقولات للراحل في الفن، وبعض من رسائله وما كتب عنه من شخصيات فكرية وفي وسائل الإعلام إضافة لصور توثق أهم مراحل مسيرته على مدى نصف قرن.
في شهادة لزوجته ورفيقة دربه عازفة البيانو البريطانية الراحلة، سينثيا الوادي، أنه كان يحب الموسيقا منذ صغره، وخصوصاً موسيقا عبد الوهاب، حتى إنه كان يبكي عند سماعها؛ وفي السابعة من عمره حضر له حفلة في سورية، وبعد انتهائها دخل إلى عبد الوهاب وقبّل يده من كثرة حبه له؛ وبعد حصوله على الابتدائية انتقل إلى مدرسة داخلية في الإسكندرية فتحت له حياة ثقافية أوسع، خصوصاً في مجال الموسيقا، حيث بدأ يهتم بالموسيقا الكلاسيكية، وكان يصرف كل ما لديه من نقود لشراء الاسطوانات الكلاسيكية ويختلي بساحة المدرسة لسماعها، كما كان يقرأ دائماً ويهتم بالشعر العالمي، ويطلع على كل شيء: انكليزي، ياباني، فرنسي، ألماني.. لقد حاول بقدر ما يستطيع أن يقدم للموسيقا في سورية الكثير، ولكنه ظل غير راض عما وصل إليه، فكان يريد الأكثر والأفضل لما يحمله من أفكار مميزة، لكن المرض أوقفه عن تقديمها، فالحياة معه متعبة لكنها ممتعة.
وأضافت: في إحدى حفلات فرقة موسيقا الحجرة في دار السعادة للمسنين بدمشق، فاجأ صلحي الوادي الحضور بأن قدم باسم الأوركسترا وردة من كل عازف إلى مطرب سوري مقيم في الدار اسمه بهجت الأستاذ، الملقب “فتى دمشق”، والذي يحتوي أرشيفه على ألف وخمسمئة أغنية مسجلة في الإذاعة السورية، وأهداه الوادي مذياعاً نادراً قديم الصنع يمتلكه منذ الستينيات، وكان من أكثر مقتنياته العزيزة على قلبه.
بلغ عدد الحفلات الموسيقية التي قادها صلحي الوادي في دمشق، على مدى عشر سنوات، حوالي الأربعين حفلاً، كما قدم أمسيات رائعة في بيروت والأردن والكويت وعمان وتركيا وألمانيا وإسبانيا والولايات المتحدة وأرمينيا. وأبرزت تلك الحفلات وجه سورية الحضاري، الأمر الذي دفع “النيويورك تايمز” إلى كتابة مقالات مسهبة عن الفرقة السورية مسفّهةً ما ذهب إليه الإعلام الأميركي المسيّس ضد سورية، واصفة عازفات وعازفي الفرقة السورية وأدائها بأنها خير سفير لسورية الحضارة.
كرّمته دمشق ضمن احتفالية دمشق عاصمة الثقافة العربية، عام 2008، بالتعاون مع مؤسسة “ايكوم” للتبادل الثقافي في حوض البحر الأبيض المتوسط والهيئة العامة لدار الأسد للثقافة والفنون والمفوضية الأوروبية، وغيرها من المؤسسات الاقتصادية والثقافية؛ وقد استمر هذا التكريم أسبوعاً كاملاً عزفت خلاله بعض مؤلفاته لموسيقى الحجرة غير المعروفة جماهيرياً، ليكون بحق السيمفونية السورية الخالدة.
حصد صلحي الوادي العديد من الجوائز التكريمية والعالمية لعل أهمها وسام الاستحقاق السوري من الدرجة الممتازة، عام 1992، وقلده إياه القائد الراحل حافظ الأسد لخدماته التي قام بها من أجل الموسيقى في سورية؛ وفي عام 2004 تم تكريمه بإطلاق اسمه على المعهد العالي للموسيقى، وقد أثرى المكتبة الموسيقية بأعمال لم يتناولها غيره من المؤلفين العرب على أنواعها.
رحل صلحي الوادي بعد أن قضى عمره أسير حلمه – مشروعه الموسيقي، حيث أسس المعهد العالي للموسيقا، برهافة روحه ورقة إحساسه، وهو المعهد لذي خرّج الكثير من الموسيقيين الموهوبين الذين حققوا بصمتهم الفنية عربياً وعالمياً، ينطلقون في فضاء اللحن معتمرين وصايا أستاذهم الذي سفح عمره على هضاب التعب ليرسم للموسيقا مستقبلها الذي يعيشه الآن محبوها ومحبو الفنون كلها، وليبقى صدى ألحان الفرقة السيمفونية الوطنية يتردد في أرجاء المكان لتجدده وتحافظ عليه من التكلس والترهل.