قضايا شعرية
ضربَ الشعر العربي ببدويته العصيّة على الضبط، كافة المعايير التي وضُعت لجعله أكثر رسوخاً وحضوراً ويقيناً -حسب اعتقاد واضعيها-، ليتضح بتوالي الأيام أن كل قاعدة وضُعت لتحديد مفهومه، لم تكن إلا عكازاً سريع العطب والانكسار، وكل قانون أو شرط اتُفق عليه لتوحيد الآراء المتنافرة عنه، اعتراه التوجّس والقلق إزاءه، كونه عصياً على المؤكد المجرد من كل يقين، حتى القدسي منه الذي حاول ترويضه على شكل نص مقدس “لا ينطق صاحبه عن الهوى، وما هو إلا وحي مُنزل”، قامت العديد من المدارس الأدبية بدراسته كنص أدبي ينسج بمهارة بين العديد من الأنواع الأدبية، ويأخذ من كل نوع أهم خواصه ليقدّم مقالته، وهذا ما يجعل الكتابة عن الشعر بشكل عام، أو عن أي منجز شعري لشاعر ما، ليست بالمهمة اليسيرة التي يتخيّلها البعض، هذا إن لم تكن على قدر من الخطورة التي قد تودي بالمكتسبات الثقافية والفكرية لشخص سعى لتكوينها وترسيخها من خلال قراءات ودراسات مطولة لذلك الكائن الهشّ، الضعيف، المرتاب بطبعه، عدا عن ميله المستمر إلى الهروب خشية الإصابة بعدوى النمطية أو الارتهان لأنواع أدبية مختلفة تخطف منه بريقه وسحره.
اليوم وبعد أكثر من 50 عاماً على شيوع قصيدة “النثر” في سورية والعالم العربي، وبعد الكثير من التنظير الأدبي الثقافي لها، يبدو واقع هذه القصيدة أكثر هشاشة وقابلية للانحلال، –رغم وفرتها-، وهذه الهشاشة الفنية في ضرب من ضروب الفن الأهم -أي الشعر- كان أحد أهم أسبابها الاستسهال الذي تمّ التعامل به معها، وذلك من معظم كُتّابها الجدد وأيضاً من النقاد، الذين جاء تصديهم لها محكوماً بالشخصانية في الكثير من جوانبه، حتى دور النشر التي تُعتبر هي الصمام الفعلي لضبط منسوب الجدة من الهراء في شأن خطير كهذا، لم تعد معنية بالقيمة الأدبية والمستوى الفكري والمعرفي، عند نشرها لمجموعة شعرية ما، فالعديد منها ولكي يبقى على قيد الوجود، بعد انتشار الكتاب الإلكتروني، وتراجع الورقي، صار النشر بالنسبة لها محكوماً بالحالة التجارية البحتة، حتى أنها تراجعت عن دورها التسويقي في المعارض التي تُقام في العالم للكتاب، وهكذا فمن يتوفر معه القيمة المالية للنشر، يقوم بذلك ثم يأخذ ما طبعه ويقوم بتوزيعه بشكل شخصي، ما جعل لدينا وفرة غير مسبوقة في “الشعر”، مع غياب للشعراء. والمتابع للمشهد الشعري، يعرف أنه لم تعد من قامات شعرية يُركن إلى صدقيتها الفكرية والمعرفية في فرز الغث من السمين، ومن أسف فإن الغياب الحاد للمؤسسات التي يُعتد بها في هذا المجال، جعلها وما تنتجه من كتب نقدية ودواوين شعرية، خارج إطار المنافسة التي لم تدخلها بعد، حتى أنها أصيبت بلوثة الوفرة، وصار بعض نتاجها أيضاً لا يخلو من العيوب النقدية الفادحة في الشأن الشعري.
اليوم وبعد أن أصبح لكل شخص منبره الخاص به، المنبر الذي توفره وسائل التواصل الاجتماعي، لم تعد كتابة القصيدة الشعرية محكومة حتى باللغة الصحيحة، خصوصاً وأن العديد من الأفكار التي تمّ الترويج لها في العقدين السابقين، لا تجد غضاضة في التخلي عن الصحة اللغوية في كتابة قصيدة نثرية ما، ومع غياب الصحة اللغوية فمن الطبيعي أن تغيب العديد من مقومات قصيدة النثر، والتي لا تقوم قائمة لهذه القصيدة بغيرها، كالإيجاز، الإشراق، التوهج، الرشاقة، التراكيب اللغوية الجديدة، والصور الشعرية الصادمة، ليكون التشابه هو الصفة العامة لمعظم هذا النتاج، ورغم أن بعض هذه الخصائص، يتوفر بالشكل الكلاسيكي للقصيدة العربية “العمود”، إلا أن اعتبارها من محدّدات القصيدة الجديدة، يُحسب للنقاد والشعراء الرواد، الذين استشفوها من علاقتهم الجيدة بالقصيدة الكلاسيكية، وبعضهم يرفض رفضاً تاماً التقسيم الشعري هذا، فقصيدة النثر بالنسبة لهم ما هي إلا تطور طبيعي للقصيدة العربية، والغريب في غياب هذه المحدّدات عن المشهد الشعري الجديد، هو غيابها أيضاً عن الشأن النقدي، الذي يُعتبر الضابط الفعلي لفصل الهذيان عن القول الشعري، باعتبار أن الهذيان أيضاً يُعتبر اليوم شكلاً من أشكال الكتابة الشعرية.
أكثر من ذلك، لم يعد النص الشعري بما يطرحه من أفكار –كما يفترض- وما يقدمه من جمالية لغوية وشعرية صافية، هو من يقدّم صاحبه للمنابر الشعرية وللجوائز المرموقة أيضاً -على ندرتها- بل العكس هو السائد، وما على المشكك إلا أن يجول بنظره على الجوائز الشعرية العجيبة التي تنطق باسم الشعر اليوم، ويجيء معظمها من دول لها وزنها التاريخي في الأدب عموماً، كالعراق/ مصر، فيومياً نطالع عن تلك الجائزة التي فازت بها “الشاعرة” الفلانية أو الشاعر “العلتاني”، وعند العودة إلى مصدر الجائزة، نعرف أن العامل الشخصي هو من أصدر حكم القيمة الغرائبي هذا!.
لم يكن المشهد الشعري المحلي والعربي، بهذا التشويش القيمي من قبل، ما يجعل من النظرية النقدية القائلة، بأن هناك هدفاً لضرب كل مرتكزات القوة في العالم العربي، ومنها الشأن الثقافي عموماً والشعري بشكل خاص، باعتباره ديوان العرب، وبأن كل الضجيج الذي أثارته قصيدة النثر وتثيره حتى اليوم، ما هو إلا لضرب الشكل الفني الأكمل لواحدة من حوامل الفكر العربي، قابلة للتصديق بل وللبرهنة أيضاً.
تمّام علي بركات