صِحاحُ الجوهريّ
د. نضال الصالح
الغرفةُ الصغيرةُ في المشفى تضيقُ بالناس، وشأنَهم تغرقُ في قاع صمت جليل، وشأنَهم أيضاً تلهثُ وراء عينيّ “كرمو” الشاخصتين نحو النافذة، كأنّهما تستجديان هواءً لرئتيه اللتين أكّد الأطبّاء جميعاً أنّهما قاب شهقتين أو أدنى من الفناء.
كرمو مشارقة، كما كان يحلو لعبد الكريم أن يعرّفَ بنفسه نسبةً إلى الحيّ الذي ولدَ فيه، وأودعَ في أزقّته طفولتَه وبعضاً من مراهقته وشبابه، على ضفاف السبعين من العمر. كانتِ السنةُ التي سبقتْ هجرتَه إلى القاهرة قدّدتْ جسدَه، وغضّنتْ وجهَه، وملأته بالتجاعيد، حتى بدا أشبه بشيخه صبري مدلّل، كما لو أنّ روحَ الشيخ حلّتْ في جسده، بعد أن كانت حلّتْ في روحه لنحو ستين سنة، مذ تعرّف إليه في “جامع العبّارة” الذي كان الشيخ مؤذّناً فيه عندما اصطحبه أبوه معه إلى صلاة الجمعة أوّل مرة.
“سنة بألف ممّا تعدّون” كانت لازمةُ “كرمو” كلّما سأله أحدٌ عن حلب التي غادرها بعد أن تقلّبَ على نار الهجرات من حيّ إلى آخر، وبعدَ أن افترستْ واحدةٌ من “قذائف جهنّم” طفليْه اللذين منحتهما السماء له بعد عشرين سنة من زواجه، وهما يقفان في صفّ طويل أمّام فرن “الفيض” ليشتريا خبزاً، ثمّ يبيعانه، ليكفيا “الختياريْن” الحاجةَ إلى أحد، ثمّ وبعد أن باغتتْ طلقةُ قنّاص رأس “خدّوج” بينما كانت تعبرُ، مسرعةً، الشارع المؤدّي من مستديرة “باب الفرج” إلى “التلل”.
في القاهرة التي مضى كرمو إليها بعوْنٍ من الحلبيين الذين سبقوه، وعندما كان يأوي إلى نفسه بعد نهار شاقّ في العمل، وبأصابع واهنة، كانَ يقلّبُ كتابَ الزمن بين يديه، فيستعيد المشارقة، وسهراته ورحلاته مع الشيخ، ثمّ صيامه عن الكلام والطعام عندما بلغه نبأ موته، وقبل ذلك، ودائماً، “خدّوج”، التي أمضى معها عشرين سنة وحيديْن، ورفضَ محاولات أمّه وتوسلاتها إليه ليتزوج من أخرى.
خدّوج التي، كلّما كانت تخطرُ بقدّها النحيل أمامَه، كان يغنّي لها: “يا ذا القوام السمهريّ”، والتي ما إنْ كانت تتثنّى على إيقاع صوته “الربّاني” كما كانت تصفه دائماً، حتى كان يمضي إلى ملكوت لا يحيط به سواه، ثمّ يعاود الغناءَ: “يا ذا القوام السمهريّ، حاوي الرُّضاب السُّكّري. عن ثغركَ الزاهي اللمى، يروي صِحاحُ الجوهريّ”. ولم تكن خدّوج تُمعنُ في دلالها، حتى كان يشدّها إليه، ويمضي بأصابعه الخافقة في غابة شعرها المنسدل حتى آخر خصرها، وقبلَ أن تبدأ، كعادتها، السؤالَ عن السمهريّ، والرُّضاب، واللمى، وصِحاح الجوهريّ، كان يرجوها أن تُغمض عينيها، ثمّ بطريقة تخصّه يشرحُ لها معاني الكلمات.
يقلّبُ كرمو كتابَ الزمن بين يديه، فتصعد المشارقة، والشيخ صبري، وخدّوج له من صفحاته دائماً، وما إنْ كانَ يبلغ صفحةَ ابن الفارض، حتى كانت عيناه تفيضان بالدمع. يتذكّرُ كيف، ذاتَ مساء، دخلَ إلى البيت مسرعاً، ثمّ شدّ خديجة إلى صدره، وقال لها: “اسمعي خدّوج اسمعي”، ثمّ احتضنَ وجهها براحتيْه، ثمّ غنّى: “أبرقٌ بدا من جانب الغور لامعُ، أم ارتفعتْ عن وجه ليلى البراقعُ؟”، ثمّ قال: “والمصحف متل ها الوجّ”. ولأنّ خديجة لم تفهم من بيت ابن الفارض سوى كلمة “ليلى”، فقد ضيّقتْ ما بين عينيها، وثنتْ ساعديْها على خاصرتيها، وقالت: “مين هيّ ليلى كرمو أفندي؟”، فكادت ضحكة كرمو تدور حارات المشارقة كلها، وتحشرجُ بالدمع الآن.
الغرفةُ الصغيرةُ في المشفى تضيقُ بالناس، وشأنَهم تغرقُ في قاع صمت جليل، وشأنَهم أيضاً تلهثُ وراء عينيّ كرمو الشاخصتين نحو النافذة. عينيه اللتين اتسعتا على آخرهما، ثمّ طافتا بالوجوه حولها، وقبلَ أن تستغرقا في إغفاءتهما الأخيرة، كانَ ثمّة صوتٌ يحشرجُ في أرجاء الغرفة، يغادرُ شفتيّ “كرمو” مع روحه:
مشان الله ادفنوني بحلب.