الدعم بين الإنفاق والمردود
إيجابيات كبيرة تحقّقت للمواطن السوري، طيلة عقود خلت من الدعم العيني الذي مكَّنه من الحصول على عدة سلع بسعر أقل من كلفتها الحقيقية على الدولة، ولكن بدايات هذا الدعم ترافقت بسلبيات تجلّت بشموله جميع المواطنين بغض النظر عن سوية دخلهم، فالأسرة التي تستهلك أكثر كان لها النصيب الأكبر من مجمل الدعم، وربما أسرة غنية استفادت من الدعم بما يعادل استفادة مئات الأسر الفقيرة، وانخفاض أسعار المواد المدعومة شجّع الاستهلاك الزائد غير الضروري، فكثيرون كانوا يهدرون نسبة من الخبز اليومي الذي يشترونه، أو يطعمونه للحيوانات، وكثيرون كانوا يشعلون المدفأة في ساعات أقل برودة، أكان في منازلهم أو في أماكن عملهم، وكثيرون كانوا يتنقلون بسياراتهم الخاصة أو السيارات العامة لأكثر من الضرورة، نظراً لضعف التكلفة بسبب انخفاض سعر وقودها المدعوم، وكثيرون كانوا وما زالوا يشعلون الكهرباء المدعومة ويفتحون صنابير المياه المدعومة أكثر من الحاجة الماسة، أكان ذلك في منازلهم أو في أماكن عملهم نظراً لانخفاض أسعارها، والسلبية الأكبر تجلَّت بأن جميع غير السوريين المقيمين في الأرض السورية بصورة دائمة أو مؤقتة، أو الزائرين لها لفترة قصيرة أو العابرين لها -وأعدادهم بالملايين- كانوا يحصلون على الخبز المدعوم والوقود المدعوم والكهرباء المدعومة والماء المدعوم، بسوية المواطن السوري نفسها، واستفادوا من جميع الخدمات الرخيصة المستفيدة من الدعم، ما تسبّب في تحميل الخزينة السورية نفقات باهظة في غير محلها، تمّت على حساب الأعمال الإنتاجية.
في السابق كانت المواد المدعومة متوفرة في السوق للجميع وبسعر واحد، أي لم تكن السوق السوداء مرافقة لها، ولكن هذه السوق ظهرت عندما بدأ التقنين للسكر والرز والشاي، باستخدام دفاتر القسائم التموينية لجميع الأسر السورية، حيث بدأ التّجار بشراء هذه القسائم من أصحابها (عدا ما هو مزوَّر منها) والمتاجرة فيها، نظراً للفارق الكبير بين سعر حصتها من المواد المدعومة وسعرها الحر، والحال نفسها ظهرت عقب تحديد كمية مازوت التدفئة للأسر بموجب استمارات استلام ومن ثم بموجب دفاتر قسائم، ولاحقاً عن طريق لجان الأحياء، حيث كان أصحاب محطات والوقود والتجار يشترون القسائم أو المازوت من المواطنين أو أصحاب المنشآت الذين يبيعونه لأنهم لا يستحقونه أصلاً أو ليسوا بحاجته، أو يرون أفضلية بيعه من استخدامه، وبالتالي حقّق تجار السوق السوداء أرباحاً كبيرة على حساب ما خصّصته ميزانية الدولة للدعم.
أما إيجابيات وسلبيات الدعم في هذه الأيام فهي قريبة من الماضي مع بعض الفروق، فالبطاقة الذكية حقّقت كسباً كبيراً، إذ حصرت المادة المدعومة من الخبز والسكر والرز والوقود بالمواطن السوري، مع وجود بعض هذه المواد في السوق بالسعر الحر لغير السوريين، وللسوريين الذين يستهلكون كميات زائدة عن مخصّصاتهم، إلا أن السلبية تجلت بعدم وصول الكمية المدعومة نفسها من بعض المواد بالتساوي لجميع الأسر السورية (بغض النظر عن الشهداء والجرحى والحالات الخاصة) فبعضهم حصلوا على /200/ ليتر للتدفئة والبعض على /100/ ليتر والبعض على /50/ ليتراً والبعض لم يحصل على شيء، والحال نفسها بالنسبة للزيت النباتي، كما أن العديد من المعدات الزراعية العاملة على المحروقات، لم تعطَ مخصصاتها من الوقود حتى تاريخه، وسيارات البيك آب والفانات العاملة على المازوت، لم تعطَ إلا نسبة قليلة من مخصصاتها، وفاتت فترة استخدام السماد الآزوتي الذي لم يعطَ إلا لعدد محدود من المزارعين، ومتوفر في السوق السوداء بأكثر من خمسة أضعاف سعره المدعوم؟!.
إن تقنين المواد المدعومة وطريقة توزيعها، ووجود أكثر من سعر لها (كالمازوت /135ليرة للأفران/ وللتدفئة بـ/185/- وللصناعيين بـ/650/) وندرة توفر وجود بعضها بسعر حر أسّس لسوق سوداء من خلال اضطرار بعض محتاجيها لشرائها بسعر أعلى من محطات الوقود التي لديها ذلك نتيجة التلاعب بكميات الصهاريج الموردة لها أو بعداداتها أثناء المبيع، أو عن طريق وسطاء يتاجرون بها أو مباشرة من الذين حصلوا على مخصصات (أكانوا أسراً أو منشآت) لا يستحقونها أو لا يحتاجونها أو وجدوا أفضيلة بيعها من استخدامها، فبعض أصحاب الأفران يبيعون بعض الطحين والوقود المخصّص لهم، لأن ذلك يدرّ عليهم ربحاً أكثر من تصنيع الخبز، وهكذا الحال لبعض المنشآت التي تحصل على الوقود الصناعي، وأصحاب سيارات النقل يبيعون قسماً من مخصصاتهم، ما تسبّب بأزمة نقل على كثير من الخطوط، فسعر السوق السوداء لليتر المازوت وليتر البنزين وربطة الخبز، وكيلو السماد الكيماوي يكاد يزيد عن خمسة أمثال السعر المقنّن في أكثر من مكان، وهذا الفارق بين السعرين يذهب من حساب الخزينة العامة (التي تخصّص مبالغ كبيرة لدعم هذه المواد وبيعها بأقل من كلفتها بكثير) لمصلحة تجار السوق السوداء، هذا الحال مثار تساؤل وامتعاض صامت كبير عند الكثيرين، وكاد السيل أن يبلغ الزُّبَى، ما يوجب المعالجة العاجلة بحكمة من أولي الأمر، ولا مبرر لعجزهم عن ذلك، أكان جهلاً أو تجاهلاً أو قصوراً و تقصيراً، فليدعموا حكمة قرارهم بسماع الرأي الآخر، وليلتقوا مع الشعب لسماع طروحاته، وقديماً قيل خذ الحكمة ولو من أفواه المجانين.
نعم نحن في حالة حصار، ولابد من التقنين للمواد المهمّة المحدودة التوفر، والدعم حاجة ماسة، ولكن مع إعادة النظر، إذ من غير المعقول افتقاد السلطات لطرق وإجراءات تمكّنها من حصر المادة المدعومة بمحتاجها ومستخدمها الفعلي فقط، وتمنع مقومات ظهور السوق السوداء بأضعاف أضعاف السعر المدعوم، ومن المفترض وجود حلول عند رجالات الاقتصاد ومراكز الأبحاث والدراسات، ولعلّ الرقابة الصارمة بالتوازي مع التحوّل إلى الدعم النقدي، يشكلان أحد المخارج من هذه الورطة.
عبد اللطيف عباس شعبان/ عضو جمعية العلوم الاقتصادية السورية