أزمة سد النهضة الإثيوبي والحل الممكن قبل فوات الأوان
علي ناصر محمد
كانت علاقات إثيوبيا، في عهد الثورة التي قادها الرئيس منجستو هيلاميريام، وأطاحت بالإمبراطور هيلاسلاسي، في 12 أيلول 1974، بجمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية وثيقة نتيجة وحدة التوجه الفكري والقناعات السياسية والعلاقات بالاتحاد السوفييتي.
بلغت تلك العلاقات أوجها وتطورت على كافة الأصعدة، سياسياً وعسكرياً، وخاصة بعد الحرب التي شنّها الجنرال سياد بري على أوجادين باعتبارها أرضاً صومالية، وأنه ولد فيها، وهذا يتعارض مع ميثاق منظمة الوحدة الافريقية الذي يعترف بالحدود القائمة حينها. وفي ذروة التوتر بين الصومال وإثيوبيا، عُقد لقاء قمة في عدن بين الرئيسين منجستو هيلاميريام والجنرال سياد بري، وبحضور الرئيس فيدل كاسترو والرئيس سالم ربيع علي وعبد الفتاح اسماعيل، وحضوري؛ وأتذكر يومها، في آذار من عام 1977، أن اللقاء استمر من الساعة السابعة مساءً وحتى السابعة صباحاً، في محاولة لحل الخلافات بين البلدين بالطرق السلمية والودية وتشكيل لجنة أثيوبية – صومالية – كوبية – يمنية، لمتابعة التوتر ومنع اندلاع حرب في أوجادين الغنية بالنفط، ولكن الجنرال سياد بري رفض كل ذلك، وتمسك بأن هذه أرض صومالية، وبأنه ولد فيها.
وعند الساعة السابعة صباحاً، وقف الرئيس فيدل كاسترو وقال: “إن هذا أطول اجتماع في التاريخ أحضره، وإنه لا جدوى من الحوار”، وكان البديل لهذا هو الحرب التي اندلعت في كل الاتجاهات، وألحقت أضراراً كبيرة بالقدرات العسكرية والاقتصادية والبشرية لهذين البلدين الفقيرين. وكانت قد انحازت أطراف اقليمية ودولية لدعم الطرفين، ولكن المنتصر في هذه الحرب كان مهزوماً، بسقوط الزعيمين في كل من مقديشو وأديس، في عام 1991، لتأتي قوى أخرى بعد ذلك لحكم هذين البلدين، والذي دفع الثمن هما الشعبان الصومالي والأثيوبي.
وأتذكر أننا، في عام 1981، وأثناء اللقاء التمهيدي لمعاهدة عدن الثلاثية، بين عدن وأديس أبابا وطرابلس، بحضور الرئيس منجستو والرائد عبد السلام جلود، نائب العقيد معمر القذافي، ومن قبلي، جرى على الهامش حديث حول مياه النيل الأزرق والمياه التي تتدفق من بحيرة تانا في الهضبة الإثيوبية إلى مصر والسودان، وأهمية انتظام تدفق المياه إليهما. ويومذاك، قال عبد السلام جلود – وكأنه يتنبأ بالمستقبل أو يستبق ما حدث عام 2011 – بأن قيام إثيوبيا ببناء سدّ، أو سدود تمنع تدفق المياه إلى مصر، سيؤثر في مستقبل العلاقات العربية الإثيوبية والعربية الأفريقية.
كان ردّ الرئيس منجستو: “إن “إسرائيل” وبعض الدول العربية طالبتنا بإقامة مثل هذه السدود، وأبدت استعدادها لدعمنا، ولكننا رفضنا. وفوق ذلك قطعنا العلاقات الدبلوماسية مع “إسرائيل” وسمحنا لمنظمة التحرير الفلسطينية بفتح أول مكتب لها في أديس أبابا. عملنا كل ذلك بكل ما ينتج عنه من توتر في علاقاتنا بدول غربية كبرى، ولكننا لم نلق من بعض الدول العربية، التي كانت صديقة لنظام هيلاسيلاسي، إلا التآمر علينا، ودعم الصومال مالياً وعسكرياً، ودعم الانفصاليين الإريتريين الذين لم يكونوا يدعمونهم قبل ثورتنا على نظام هيلاسلاسي”. وأضاف قائلاً بما مضمونه أن منع تدفق مياه النيل إلى مصر والسودان يعني الحرب، ونحن لا نفكر في ذلك، لأن أي عمل من هذا النوع تتوقف عليه حياة الشعب المصري، الذي تربطنا به علاقات تاريخية منذ القدم، أما السودان فلن يتأثر كثيراً بإقامة أي سدود لأن لديه مصادر كثيرة من المياه وأمطاراً غزيرة في الجنوب.
هذا التعهد أو الموقف الإثيوبي المهم على أعلى مستوى سياسي لم يُوثّق، لأنه جرى على هامش موضوع آخر يتصل بالعلاقات بين الدول الثلاث (أطراف معاهدة عدن التي وقعتها أنا والرئيس منجستو والعقيد القذافي). ومن ناحيتي، لم أجد بداً من إبلاغ مضمون ذلك الحديث الى الرئيس الراحل حافظ الأسد وبعض الأصدقاء المصريين.
وفي ذلك الوقت لم يُهتم به، لأن بناء سد كان خارج تفكير إثيوبيا المنهكة بصراعها المستمر في أريتريا، ولأن مصر كانت معزولة عربياً بعد قرارات قمة بغداد 1978، بسبب كامب ديفيد، وكان القذافي حينها يناصبها العداء الشديد لذات السبب، وسورية والعراق كانتا في موقفين متضادين من الحرب العراقية الإيرانية، أو ما عرف بحرب الخليج الأولى. وبأثر رجعي أقول، بقدر من الثقة، لو أن مصر والسودان أرادتا تغيير اتفاق مياه النيل لوافقت إثيوبيا، وقد حدثني منجستو بذلك.
ونحن نتابع اليوم عملية التصعيد السياسي، وما قد يقترب من العسكري، بين مصر والسودان وإثيوبيا بعد الاقتراب من استكمال بناء السد وتوظيفه كقضية وطنية إثيوبية، وبدء ملئه بدون اكتراث إثيوبيا بالمصلحتين الحياتيتين لمصر والسودان، المترافق مع برود في مواقف بعض الدول العربية إزاء مصلحة الشقيقتين، نتمنى حلاً عادلاً يصب في مصلحة كل الأطراف.
ولقد تطرق لهذا الموضوع في حزيران من العام الماضي – من بين قراءاتي – مقال عن الأضرار الناجمة في حال انفجار سد النهضة، وما سيلحقه من أضرار بالسودان وبمصر على طول مجرى نهر النيل، حتى الدلتا على المتوسط، وتدمير السد العالي بأسوان، وكذلك المدن والكباري والآثار التاريخية وتشريد الملايين..
إننا مع الشقيقتين مصر والسودان، ومع موقف الأمم المتحدة التي نص أحد قراراتها على ألا تُحدِث دول المنابع النهرية أضراراً بدول المصب؛ ومن هذا المنطلق نأمل من إثيوبيا أن تلتزم به، وألا تغلب مصلحتها على مصلحة شقيقتيها، وأن تأخذ في الاعتبار مصلحتيهما، خاصة وأنهما لا تعترضان على بناء سد تستفيد منه إثيوبيا تنموياً، وتكون هي السبب لا سمح الله في أن يحصل لمصر ما حصل لأرض الجنتين في اليمن بعد انهيار سد مأرب.
إن مصر عبر التاريخ أقامت حضارات وحياة على مياه النيلين، ومصر هي هبة النيل، وستظل كذلك إلى أبد الآبدين.
ما يحدث اليوم في إثيوبيا حدث في تركيا قبل عقدين، عندما بنت عدة سدود، من بينها سد إليسو، التي ألحقت أضراراً كبيرة بسورية والعراق.
وكحلٍّ مقترح وعملي تقديراً لخطورة الأمر والأزمة التي تتصاعد، نطالب بعقد قمة عربية – أفريقية لشرح المخاطر الناجمة عن بناء هذا السد، واتخاذ موقف عربي وأفريقي موحد يتجاوز الخلافات والمؤامرات البينية، خاصة أن مجلس الأمن قد أحال موضوع سد النهضة إلى الاتحاد الأفريقي لمعالجته وإيجاد حل مرض لأطرافه.
وأخيراً.. لقد تنبأ البعض بحروب المياه، وآمل مخلصاً ألا يحدث ذلك بين أشقاء تربطهم مصالح وروابط شتى عبر التاريخ.