العنف الأمريكي.. استحضار لعقلية الحروب السابقة
ترجمة: عائدة أسعد
إذا استحضر الأميركيون سيناريوهات تصاعد العنف السياسي في بلادهم بعد الفوضى في مبنى الكابيتول، فإن ذلك يقود إلى أن هذا العنف مستمد تاريخياً من الحروب على امتداد عقدين من الزمن في الخارج والتي انساقت وراءها إدارات تعاقبت على البيت الأبيض من الحزبين الديمقراطي والجمهوري.
لقد وصف الكثير من الأميركيين أحداث اقتحام مبنى الكونغرس في السادس من كانون الثاني الماضي قبل ساعات من المصادقة على تولي الديمقراطي جو بايدن رئاسة الولايات المتحدة خلفاً لدونالد ترامب بأنها أشبه بمعركة وكرّست الأفكار التي دارت في رؤوس عدد من الباحثين والمسؤولين والجنود السابقين بأن “الأمر كما لو أن الولايات المتحدة أصبحت منطقة حرب”. ومن بين هؤلاء كان جيسون كاندر، وزير خارجية ولاية ميزوري السابق، والجندي السابق في أفغانستان، والذي رأى عنف ذلك اليوم بمثابة حرب، وطلب حينها ممثلو الكونغرس وغيرهم ممن تحملوا وطأة هذا الهجوم المساعدة.
بينما حمّلت الباحثة أندريا مازارينو الرؤساء السابقين، سواء أكانوا ديمقراطيين أم جمهوريين، المسؤولية عن الحرب المستمرة منذ عشرين عاماً في مناطق النزاع وأيضاً العنف الذي بدأ يتكشف في الولايات المتحدة وتترسّخ من خلاله قناعة لدى الأميركيين بأنه لا يمكن تحمل أخطاء قادتهم السياسيين، وأنهم إذا لم يتمكنوا من الضغط لوقف خوض الحروب الخارجية فلن تظل بلادهم محصّنة ضد هذه الحروب الداخلية أيضاً.
وترى مازارينو أن الرئيس السابق دونالد ترامب لم يختلف عن أسلافه في شنّ الحروب الأبدية على مدار عقدين، فقد أرسل الأميركيين للقتال في الخارج دون أن يذهب معهم، واتضح ذلك حين دعا أنصاره للقتال دفاعاً عن الديمقراطية بالقول: “لن يكون لديكم بلد بعد الآن”. كما يبدو أن ثمة قناعة بأن جيش ترامب الصغير دمّر في ليلة الهجوم على الكابيتول الممتلكات بالأدوات العدوانية، وفي إحدى الحالات زرعوا قنابل أنبوبية بالقرب من مقر الحزبين الجمهوري والديمقراطي ونهبوا غرف الكونغرس، بما في ذلك منصة رئيسة مجلس النواب نانسي بيلوسي. وفي تجاهلهم لبروتوكولات السلامة من الوباء أطلق المعتدون ما يشبه الحرب البيولوجية ضد المشرعين وشرطة الكابيتول واقتحموا المبنى، مما أجبر المشرعين على الازدحام في أماكن مغلقة لإنقاذ حياتهم إن لم يكن تعريضها للخطر في الوقت نفسه، وقام المعتدون بتلطيخ الجدران وتماثيل رؤساء سابقين بالدماء.
لقد كان معظم الأميركيين يستحضرون سيناريوهات عنف منذ شهور، منها تصاعد العنف السياسي فيما كان يُعرف في زمن الحرب بالجبهة الداخلية في البلاد التي تضمّ أكثر السكان المدنيين تسليحاً على وجه الأرض، واللافت أن عدداً قليلاً من الأميركيين بخلاف العائلات العسكرية كانوا منشغلين بالعنف الذي بدأ يتكشف في الشوارع، وبالطريقة الغريبة التي تهدّد بها حروب استمرت 20 عاماً بالعودة إلى البلاد.
وتؤكد مازارينو أن أحد الدروس المستفادة من هذه السنوات أنه في الولايات المتحدة التي يتكوّن جيشها من المتطوعين هو أن الحروب لا توجد أساساً إلا إذا كان الشخص متورطاً فيها بشكل مباشر أو غير مباشر، وقد رصدت ردود الفعل المتباينة لدى المواطنين العاديين وما إذا كانوا مهتمين بكيفية تبرير الناخبين وممثليهم لقرار حلّ مشكلاتنا العالمية من خلال خوض حروب لا تنتهي. ولذلك يمكن تأطير ما حدث في السادس من كانون الثاني من خلال وجهة النظر أن 74 مليون أميركي صوّتوا لرئيس يصور أولئك الذين يختلفون معه على أنهم تهديدات وجودية للولايات المتحدة.
وعلى مدار حوالي عقدين من الزمن استثمرت الإدارات المتعاقبة مبالغ ضخمة في الآلة العسكرية والصناعات الحربية، مع تحويل مسار الأموال عن الخدمات الاجتماعية الرئيسية بدءاً من الرعاية الصحية إلى خلق الوظائف المحلية. وفي الوقت نفسه قامت تلك الإدارات باستمرار تحويل الأسلحة العسكرية القديمة من مناطق الحروب إلى أيدي إدارات الشرطة في جميع أنحاء البلاد وهكذا إلى شوارع مدينتنا. ومن هنا تتساءل مازارينو: لماذا يشعر أي شخص مرتبط بالجيش بالقلق أو بالخوف من أمر ما؟. وكيف لا يقلق الأميركيون وخاصة الجنود الذين يتلقون الأوامر بالمشاركة عند حدوث حروب من أي نوع؟.
إن التقديرات الرسمية تشير إلى أن قرابة مليوني أميركي يخدمون في الجيش ونحو 2.6 مليون آخرين من أفراد عائلات هؤلاء العسكريين، ويمثل هذا إجمالياً أكثر بقليل من واحد في المئة من إجمالي عدد سكان الولايات المتحدة. وتبدو المخاوف الخاصة بالعسكريين وأسرهم مختلفة عما يشعر بها المدنيون الأميركيون، فقد شاركوا بشكل مباشر أو غير مباشر في تلك الحروب التي شُنّت بعد 11 أيلول 2001 وحتى اليوم بداعي محاربة الإرهاب.
وتعتقدُ مازارينو أن رعاية أولئك الذين لا يزالون في الخدمة العسكرية ليست بالمهمّة الصغيرة في دولة يمكن أن تكون محاولة الحصول على رعاية الصحة العقلية فيها بمثابة النهاية لوظيفة هذا الجندي، وغالباً ما تكون عائلاتهم هي الملاذ الوحيد لهم، كما أن مسألة الدخل تلقي بظلالها عليهم، ففي المتوسط يتقاضى الجنود أجوراً أقل بنسبة 27 في المئة من نظرائهم المدنيين!.