إيقاف التمديد بوجه المتقاعدين.. استهانة بالخبرات أم إفساح لدور فاعل للشباب؟
لم يجد “كبارنا” تلك الضمانة التي أغرتهم حين تهافتوا على الوظيفة العامة في مقتبل عمرهم، يقول ستيني متقاعد: “عملت جاهداً منذ تخرجي من الجامعة لأحصل على وظيفة الدولة، مفرطاً بالعديد من الفرص في الخاص، وأحظى بالضمانة والتعويض والراتب التقاعدي مدى الحياة، إلا أن المياه كذّبت الغطاس، وها أنا عاجز عن التمتّع باستراحة ما بعد الخدمة الطويلة، فأقبض راتبي 50 ألف ليرة، وأتجه إلى سيارة الأجرة التي أعمل عليها لورديتين لتأمين لقمة عيشي”.
حفظ ماء وجوههم
تنتهي الخدمة وفق قانون العاملين الأساسي إما ببلوغ الستين عاماً، أو وفق نظام التقاعد المبكر الذي يتيح التقاعد بعد بلوغ سنوات التوظيف 25 عاماً، وقديمةُ هي المطالبات برفع السن إلى 65 عاماً، حيث يكون أغلب العاملين ما زالوا في أوج عطائهم بعد تراكم الخبرات لديهم طيلة سنين الوظيفة، إلا أن الإشكالية ظهرت بوضوح خلال سنوات الحرب بعد تسرّب قسم كبير من الكفاءات، فتزايد الاعتماد على كبار الموظفين ولوحظ زيادة بطلبات تمديد الخدمة التي كان يوافق عليها نظراً للحاجة والضرورة، فكانت بذلك تعوّض عما يسمّيه البعض “عيباً” في تحديد سن التقاعد، إذ يرى الموظفون بالتمديد فرصة معنوية ومادية أيضاً، حيث تحفظ ماء الوجه من العمل في مهنة أخرى غير ملائمة لخبراتهم، وتتيح الفرصة لاستثمار ما تراكم لديهم من معرفة وخبرة بالشكل الأمثل. إلا أن ذلك المنفذ الوحيد بات اليوم مقيداً أيضاً، فبعد مضي حوالي شهرين منذ قرار الحكومة بحصر تمديد الخدمة بشروط واختصاصات محدّدة ولمدة عام واحد فقط، تتوالى اليوم الردود المترافقة بالرفض لمعظم الطلبات المرسلة من الوزارات والقطاعات المختلفة، فهل حلّت مشكلة نقص الخبراء؟ وكيف تمّ ذلك؟ وماهي المعلومات التي اتُخذ القرار على أساسها؟. طرحنا العديد من الأسئلة حول مسبّبات القرار والرؤية المبنية عليه والبدائل المتاحة وغيرها من الاستفسارات التي بقيت معلّقة بين وزارتي التنمية الإدارية والشؤون الاجتماعية دون أن نحصل على إجابة واحدة من أي منهما!!.
ليس جديداً
لا يمكن النظر لهذا القرار على أنه جديد –بحسب الخبير الاقتصادي د. ماهر سنجر- بل هو مشابه لتعميم صدر في /2017/ شدّد على جواز التمديد لدى الضرورة وفقاً لما اقتضت المادة /132/ من القانون الأساسي للعاملين في الدولة، على أن يكون التمديد بناءً على طلب العامل وليس فقط على اقتراح الوزير المختص، كما أنه يتزامن مع زيادة في إقبال الشباب السوري خلال الفترات الماضية على الدراسات العليا في الكليات والمعاهد، ومع جملة من القرارات المتعلقة بمسابقات الهيئة التدريسية.
استمرارية
ليس خافياً على أحد أن مختلف القطاعات تواجه اليوم خللاً واضحاً في الخبرات المتاحة، فرغم أنها أثبتت كفاءة عالية جداً خلال سني الحصار في الترميم والتأهيل على قدر المستطاع، وإقلاع المعامل والمحطات، إلا أنها تواجه نقصاً واضحاً في العدد، والكثير من أصحاب الخبرات هذه إما تقاعدوا أو أوشكوا على التقاعد وسط فجوة خلقتها السنوات الماضية بتسرّب الكوادر التي كانت مؤهلة لتحلّ مكانهم لسبب أو لآخر، إذ يوضح مهندس متقاعد أن من كانوا يعملون على تدريبهم طيلة السنوات الماضية إما غادروا البلاد أو تركوا الوظيفة، والقادمون الجدد بحاجة كوادر تؤهلهم لمعرفة تفاصيل العمل، فالجميع يدرك أن الواقع العملي يختلف بشكل كبير عما تدرّسه الجامعات.
ومع تأكيده تأثر هذه المؤسّسات بخروج عدد لا بأس به من العاملين بها والهجرة، يوضح سنجر أن ما يميّز النظام المؤسّسي بأنه غير قائم على أفراد بل على نظم تستمر، ومن المبادئ الرئيسية لأية مؤسّسة هي قدرتها على الاستمرار بغضّ النظر عمن يغادر أو من يبقى!. ففي بادئ الأمر اضطرت بعض المؤسسات إلى إعادة النظر بتوزيع المهام والمسؤوليات على العاملين لديها، ووجدت نفسها أمام استخدام خطة إحلال وظيفي لتشغل الشواغر، أو الاعتماد على نظام التعاقد لملء الشواغر المتوفرة.
بديل مؤقت
من جانب آخر فإن لرفع سن التقاعد أو تمديد الخدمة منعكساً سلبياً على الخريجين الجدد، فهي تحدّ من فرصهم في كل عام وتؤخر حصولهم على دور فعّال في الحياة الاقتصادية والعملية، وهنا يعتبر سنجر أنه يتوجّب المحافظة على الخبرات والرؤى المتبصرة من أجل تحسين المنفعة المطلوبة من مختلف المؤسسات، إلا أنه في الوقت نفسه يمكن للقرار أن يشكّل فرصة لمساهمة محدودة من الشباب في سوق العمل، وتقديم أنفسهم كعنصر فاعل ومؤثر حقيقي، وهذا يشكّل جزءاً من عدة غايات رئيسية أولها تحقيق العدالة في الحصول على فرص العمل، ودمج الشباب السوري في قطاعات العمل في ظل ظروف اقتصادية صعبة وآثار مالية سلبية، والعمل على متطلبات الحماية الاجتماعية لتحقيق أهداف التنمية المستدامة والأهداف الموضوعة من منظمة العمل الدولية.
ويرى سنجر أن عقود الخبرة التي توقعها عدة مؤسسات مع المتقاعدين يمكن أن تشكّل بديلاً عن التمديد لفترة زمنية معينة وخاصة في قطاعات محدّدة كالتعليم والتربية والثقافة، فنحن بحاجة لخبراء لربط التعليم مع العمل في ظل المرحلة الحالية التي تحتاج لرفع سوية الإنتاج وتخريج كوادر قادرة على دخول سوق العمل فوراً لسدّ الفجوة الحاصلة.
إلى الواجهة مجدداً
أعاد القرار بما رافقه من تأييد أو رفض الحديث عن تعديل سن التقاعد، وهو أمر يعود إلى واجهة النقاش كل عدة أعوام قبل أن يطوى مجدداً، ففي عام 2017 كان من بين التعديلات المقترحة لقانون العاملين الأساسي رفع سن التقاعد إلى 65 عاماً، وكانت الرؤية إلى أنه فرصة لما خسرته مؤسسات الدولة من كفاءات وخبرات، كما أن هذا السن قد يعتبر ذروة العطاء لدى معظم العاملين، إلا أن هذا المقترح سرعان ما ذهب أدراج الرياح!.
ولا تقتصر الجدلية حول سنّ التقاعد على سورية فقط، فهي -وفقاً لسنجر- تتعلق بالظروف الاقتصادية السائدة وترتبط بجملة من العوامل الديموغرافية كمعدّل نمو السكان وحجم الفئة الشابة من إجمالي السكان، فمدى نجاعة حلّ رفع سن التقاعد تعتمد على نتيجة الدراسة المقدّمة من المؤسسات والتي تتضمن حصر مستحقي التمديد، فقد تتوافر لدى الكثير منهم الكفاءة والمهارات اللازمة والقدرة النفسية والبدنية للاستمرار بمهامهم بأفضل شكل، في حين قد يفقد البعض الآخر الكثير من المقومات نتيجة لكبر السن. ولم يخفِ سنجر ميله لتخفيض سن التقاعد والبدء بمشوار يكون الشباب مساهماً وفاعلاً في تحقيق الإنتاجية والنتائج المطلوبة في ظل عالم تسوده سرعة التغيير والتبادل الكبير والسريع للمعلومات والمعارف.
ريم ربيع