متى سيدعم المصرف المركزي المشاريع المدرّة للقطع الأجنبي؟ المشاريع المتناهية الصغر لا تزال بلا دعم ولا تسهيلات.. وما تحتاجه قروض بلا فوائد!!
“البعث الأسبوعية” ــ علي عبود
من المبكر جداً الحديث عن تأسيس مصارف خاصة بتمويل المشاريع المتناهية الصغر، لأن السؤال، بعد صدور قانون يسمح بتأسيسها، هو: من هي الجهات التي ستبادر لتأسيس مصارف مهمتها الرئيسية منح القروض لأصحاب المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر؟
باستثناء الحكومة، فإننا غير متفائلين بمبادرات من قطاع التجارة والأعمال، ولا من غرف التجارة، لتأسييس “مصارف التمويل الأصغر”؛ وفي أحسن الأحوال قد تتأسس مصارف مشتركة بمساهمات متواضعة من القطاع الخاص بضمانة الحكومة، وهذا يعني أن المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر ستبقى تعتمد على التمويل الذاتي إلى أجل غير مسمى!! ولا يعني ذلك تراجعاً في حجم هذه المشاريع، بل على العكس فإن الواقع يشير إلى تنامي المشروعات الصغيرة والمتناهية الصغر وبخاصة في محافظتي حلب ودمشق.
ونرى أن المشاريع الصغيرة تحتاج حالياً إلى دعم وتسهيلات تتيح لأصحابها تسويق منتجاتهم التي تنافس مثيلاتها المستوردة بالجودة والسعر؛ وإذا أرادت الحكومة دعم المشاريع المتناهية الصغر، ولا سيما التي تنتج السلع الزراعية، بإمكانها تحمل عبء فوائد القروض التي تمنحها المصارف لأصحاب هذه المشاريع ضمن خطة دائمة عنوانها “قروض بلا فوائد”؛ كما بإمكان الحكومة إعفاء المشاريع الصغيرة من الضرائب ودعم تصديرها إلى الأسواق الخارجية والترويج لها عبر الإعلام مجانا، بما يتيح لملايين السوريين التعرف عليها وتشجيعهم على شرائها؛ وننتظر من غرف التجارة المساهمة بتسويق منتجات المشاريع الصغيرة والترويج لها في معارضهم الداخلية والخارجية، وبيعها في الأسواق المحلية.
هذا بعض مما تحتاجه المشاريع المتناهية الصعر بانتظار تأسيس مصارف لتمويلها بهدف جعلها محور التنمية المستدامة والأداة الفعالة لتحسين معيشة ملايين الأسر السورية من جهة، ومواجهة الحصار الاقتصادي بفعالية تجعل تأثيره صفرا من جهة أخرى.
التمويل الحالي متواضع جدا
ولا شك أن الهدف الرئيسي من القانون رقم 8، للعام 2021، تقديم الدعم المالي لأكبر شريحة ممكنة من صغار المنتجين وأصحاب الأعمال الصغيرة غير القادرين على تأمين التمويل اللازم لمشاريعهم، والسؤال: هل ستتلافى المصارف التي ستتأسس بموجب القانون 8 ثغرات مؤسسات التمويل النافذة منذ سنوات؟
لا ننسى أن المرسوم التشريعي رقم 15، للعام 2007، سمح لمجلس النقد والتسليف بالترخيص باستحداث مؤسسات مالية ومصرفية تهدف إلى تقديم التمويل الصغير والمتناهي الصغر.. فماذا كانت الحصيلة؟
كشف مدير عام هيئة تنمية المشروعات الصغيرة والمتوسطة، إيهاب اسمندر، أن عدد مؤسسات التمويل الصغيرة في سورية لا يزال متواضعا جدا، ولا يتجاوز 3 مؤسسات فقط، وقال انه يُعول على أن القانون 8 “سيسهم في تطوير قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة، عبر حل مشكلة التمويل التي عادة ما تكون المشكلة الأهم في عمل قطاع المشروعات الصغيرة والمتوسطة”؛ أما مدير عام مؤسسة ضمان مخاطر القروض، مأمون كاتبة، فرأى أن هذا القانون سمح بتوحيد عمل ومرجعيات مصارف التمويل الصغير لتعمل كلها تحت مظلة واحدة، وتوقع كاتبة أن مصارف التمويل الأصغر المزمع تأسيسها ستتمكن من منح القروض لعدد أكبر من المشاريع الصغيرة، ويتيح لها بالتالي زيادة نشاطها الاقتصادي لأن القانون 8 حدد رأسمال المصرف بمبلغ 5 مليارات، بدلا من 250 مليون ليرة!
والسؤال: ماالترجمة الفعلية لهذا الكلام؟
فعليا تراجعت القيمة الفعلية لرأسمال المصرف من 250 مليون ليرة كانت تعادل 5 ملايين دولار، عام 2011، إلى 4 ملايين دولار، وهي القيمة الفعلية لمبلغ الـ 5 مليارات المحددة لرأسمال تأسيس مصرف التمويل الأصغر، حسب سعر المصرف المركزي حاليا!!
صحيح أن القانون الجديد أجاز لـ “مصارف التمويل الأصغر” منح القروض للأفراد المنتجين بقيمة تصل إلى أكثر من 15 مليون ليرة، بكفالة أو من دون كفالة، مع إعفاءات غير مسبوقة من جميع الرسوم على جميع العقود أو العمليات التي يجرونها مع مصارف التمويل الأصغر، بما فيها رسوم الرهن ورسم الطابع، لكن ماذا ستقدم الحكومة للمشاريع الصغيرة بانتظار تأسيس مصارف تمويلها، والتي قد تستغرق سنوات وليس أشهرا؟
دور المصرف المركزي
من المهم أن يشرح المصرف المركزي مزايا قانون إحداث مصارف التمويل الأصغر، ويؤكد بأنه “يهدف إلى تحقيق النفاذ المالي لأكبر شريحة ممكنة من ذوي الدخل المنخفض، أو معدومي الدخل، وممن لديهم القدرة على ممارسة نشاط اقتصادي ولا يمكنهم الوصول إلى الخدمات المالية المصرفية لتأمين دخل إضافي لهم”، ولكن الأكثر أهمية أن يصدر تعليمات أو قرارات للمصارف العاملة في سورية لمنح القروض لأصحاب المشاريع المتناهية الصغر معدومة الفائدة وبضمانته ريثما تتأسس مصارف التمويل الأصغر.. هذا إذا بادر أحد لتأسيسها!
ليس صحيحا أن القوانين هي التي تخلق فرص عمل جديدة، فالذي يخلق الفرص هم أصحاب المشاريع، ولو كان الأمر عكس ذلك لكان “قانون الاستثمار” – الذي صدرت نسخته الأولى عام 1991 – حوّل سورية إلى جنة للاستثمار ولخلق ملايين فرص العمل؛ فالمبادرات والأفكار القابلة للتنفيذ هي الخلاقة لفرص العمل، ويأتي القانون إما لشرعنتها أو تعميمها أو تطويرها، وقد يأتي أيضا لعرقلتها ووأدها. ومن هذا المنطلق، يمكن لمصرف سورية المركزي أن يلعب دورا مؤثرا، سلبا أو إيجابا أوحتى محايدا، وبما أن الهدف الرئيسي للمصرف تخفيض تمويل المستوردات، فيجب أن تكون أبرز مهامه دعم المشاريع التي تنتج السلع والمواد المصنعة محليا، أي البديلة للمستوردة المستنزفة للقطع الأجنبي. والسنوات الماضية تؤكد أن ليس لدى المصرف المركزي، ولا للحكومات السابقة، رؤية أو خطة واضحة يمكن ترجمتها إلى أليات فعالة لدعم المشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر التي تتيح إنتاج سلع منافسة للمستوردة بالسعر والجودة، ومدرّة من خلال تصديرها للقطع الأجنبي,
هل تفعلها “المالية”؟
رأى الكثيرون، ومنهم وزارة المالية، أن القانون 8 يشكل فرصة لكل مَن يفكر بإنشاء مشروعه الصغير، وأيضاً لمن لديه مشروع ويطمح لتوسيعه؛ وهذا الرأي لا يمكن ترجمته قبل تأسيس ولو مصرف واحد للتمويل الأصغر؛ والملفت أن الجميع تحدث عن مزايا مصارف التمويل وكأنها قيد التأسيس، أو أنها موجودة بالفعل، إلا إذا كان لدى مصرف سورية المركزي طلبات لتأسيس هذه المصارف، وأتى القانون 8 لقوننتها!
وقبل أن تظهر مصارف التمويل في القادم من السنوات، من المبكر جدا الحديث عن كون القانون يشكل بوابة لتحسين الوضع المعيشي للفئات ضعيفة الدخل، من خلال تمويل الورشات والأعمال الإنتاجية لتلك الفئات؛ وريثما يتحقق ذلك، ننتظر من وزارة المالية الدعم المباشر للمشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر من خلال إصدار قرارات تسمح للمصارف بمنح القروض لأصحابها على أن تقوم الحكومة بتغطية فوائدها، وهذا هو الدعم المالي الحقيقي للمشاريع المتناهية الصغر، بالإضافة إلى إعفائها من كافة الرسوم والضرائب، وبخاصة السلع المعدة منها للتصدير.
الدعم متواضع ومحدود جدا
وقد يبدو القرض الذي أجاز القانون 8 منحه لأصحاب المشاريع الأصغر – وهو يتراوح حسب تعليمات المصرف المركزي الأخيرة – بين 5 و30 مليون ليرة – كبيرا، لكنه فعليا متواضع جدا مقارنة بالتضخم الذي يرخي بثقله على الاقتصاد والوضع المعيشي. وهذا المبلغ يتراوح بين 4 و24 ألف دولار بسعر المركزي، أي أن القيمة الفعلية لقرض الـ 15 مليون، مثلا، تساوي القيمة الفعلية لقرض الـ 600 ألف في عام 2011. وبما أن المنتج للسلع يتعامل بسعر السوق، فإن مبلغ الـ 15 مليون بالكاد يساوي 5 آلاف دولار، أي مايعادل 250 ألف ليرة لاغير!!
والملفت جدا أن القرار السابق لمجلس النقد والتسليف، لعام 2009، كان يحدد الحد الأقصى لمتوسط الرصيد القائم للمقترض الواحد بمبلغ 250 ألف ليرة سورية – هل هي مصادفة، أم ماذا؟ – وبالتالي، عن أي دعم تتحدث الجهات الحكومية وبعض المنظرين للمشاريع المتناهية الصغر؟
وبما أن معدلات التضخم باتجاه الأعلى، باعتراف المصرف المركزي، فقد كان الأجدى عدم تحديد سقف للقرض، وإنما تحديده حسب الجدوى الربحية للمشاريع الصغيرة والمتناهية الصغر، وأن يسدد للمقترض تدريجيا حسب مراحل إنجاز المشروع، أو مراحل تطوير المشاريع القائمة.. والأهم تطبيق آليات تمنع قيام بعض المواطنين من الحصول على قروض لاستخدامها في أغراض أخرى، والتركيز على منحها لمن يحتاج إليها من خلال تحديد الشرائح والفئات المستهدفة من التمويل الذي ستمنحه هذه المصارف.
ونتفق مع الأستاذ في كلية الاقتصاد بجامعة دمشق، الدكتور شفيق عربش، بأن يكون التركيز على المشاريع الصغيرة والمتوسطة في المناطق الريفية التي تحتاج للتنمية، حيث توجد الفئات ضعيفة الدخل، فالتمويل الصغير يجب أن يستهدف الشرائح الأضعف التي يمكن أن تستفيد منه من خلال إقامة مشاريع الصناعة الريفية التي ستدر دخلاً عليها.
وطرح الخبير الاقتصادي، الدكتور حسين القاضي، فكرة “الاستثمار لمكافحة الفقر”، ورأى أنه إذا كانت المبادرة مطلوبة من الأفراد فإن على الجهات المعنية أيضاً أن تحدد آلاف المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وإرشاد الناس إلى العناوين وكيفية إدارتها والمساعدة في التمويل وإصدار رخص فورياً، وأن تقدم قروضاً فورية بضمان المشروع ذاته، خاصة أن هنالك أموالاً فائضة في كافة البنوك، ويجب استخدامها كقروض سريعة وفورية.
كما طرح الخبير التنموي أكرم عفيف فكرة مفادها أن هنالك وجوهاً إيجابية للفقر يجب استثمارها، ويرى أن الفقر مبشر من حيث إنه يدفع للعمل والإنتاج، ويدفع إلى البحث وإيجاد بدائل إنتاجية، وهذا يحتاج بشكل أولي إلى تنظيم البدائل الأسرية من حيث ماذا تنتج؟ وكيف تزيد الإنتاج؟ ويحث على السعي لتحقيق إنتاج منافس.
واستشهد عفيف بمبادرة زراعة الفطر المحاري التي قامت على مبلغ لا يتجاوز 1800 ليرة، وحققت حالة من الاستقرار للكثير من الأسر والجرحى؛ وذكر أن هنالك بدائل متاحة ولو بصعوبة في بعض الأحيان، لكنها تحدث فرقاً نوعياً في حياة الأسر، إذ يمكن للأسرة أن تعمل على تربية “معزاة” تأكل من الطبيعة وما نرميه من نفايات، ويمكن لهذه “المعزاة” أن تنتج في اليوم حاجة الأسرة من الحليب، وبما لا يقل عن 2 كيلو يومياً، وهذا سيسهم في ضخ كميات إضافية من هذه المواد بتكاليف أقل؛ وكذلك الحال عند تربية الدجاج الذي يؤمن الغذاء الصحي للأسرة، ويخفف من الطلب على هذه المادة، بما يسهم في تخفيض أسعارها.
مهمة لكسر الحصار
وبما أن الجميع يؤكد أهمية تمويل المشروعات الصغيرة ومتناهية الصغر لأنها أصل النشاط الاقتصادي، وطوق النجاة للخروج من الأزمات الاقتصادية والحصار، فإن السؤال: ماذا فعلت الحكومات السابقة لدعمها وتطويرها؟
يشير عدد من الخبراء بالمشاريع الصغيرة في سورية إلى أنها تشكل المصدر الرئيس لتقديم احتياجات المواطنين من السلع والخدمات، وتعد رافداً رئيساً لتغذية الصناعات الكبيرة بمستلزمات الإنتاج؛ ويؤكدون أن المشروعات الصغيرة هي المحور الأساسي في توسيع القاعدة الإنتاجية وزيادة الصادرات وخلق فرص عمل جديدة وخاصة في الأرياف والمناطق النائية.
ونشير إلى أن تمويل المشروعات الصغيرة يحظى بأهمية كبيرة لدى معظم دول العالم، حيث تصل نسبتها إلى 96% من المنشآت الاقتصادية في مصر، و97% في الهند، و90% في دول أميركا، وما بين 85 – 90% في أوروبا، و71% في اليابان، و98% في الأردن. في حين يبلغ عدد المشروعات الصغيرة والمتوسطة ومتناهية الصغر في الصين حوالي 4.2 ملايين مشروع، تمثل 99% من حجم المشاريع المسجلة في الصين، والتي تسهم في 75% من الناتج الإجمالي، وتساعد على خلق 79% من إجمالي الوظائف الجديدة على مستوى الدولة ككل، وهي من ساهم في تربع الصين على عرش الاقتصاد العالمي.. فما هي أسباب تقاعس حكوماتنا السابقة عن دعم المشروعات الصغيرة مادامت محور التنمية والعنصر الفعال في كسر الحصار ومواجهة العقوبات؟
لمن ستمنح المصارف قروضها؟
ولعل السؤال المطروح الآن قبل تأسيس أي مصرف: لمن ستمنح مصارف التمويل الأصغر قروضها؟
أوضح حاكم مصرف سورية المركزي، حازم قرفول، أن مصارف التمويل الأصغر تحمل بعداً اجتماعياً وتنموياً، وتستهدف الفئات الفقيرة وشرائح ذوي الدخل المحدود والمناطق النائية والأحياء الفقيرة، ولابد من الوصول لهذه الفئات والمناطق عبر نفاذ التمويل الذي تمنحه مصارف التمويل الأصغر، ومساعدة الكثير من العائلات والأفراد الذين يودون الحصول على فرص عمل، أو تحسين دخلهم، وبالتالي تحسين مستوى معيشتهم عبر تأسيس مشروع بسيط ربما يكون عيادة لطبيب لا يملك كلفة تأسيس عيادة خاصة به، أو مكنة خياطة، أو آلة تصليح وصيانة الأحذية، أو تربية بعض رؤوس الماشية، وغيرها من المشروعات الأخرى؛ أما السؤال الأهم فهو: ما سقف القروض؟ وما ضمانات منحها من قبل مصارف التمويل لأصحاب المشاريع الأصغر؟
أوضح الحاكم أنه لا يمكن في العموم تحديد سقوف القروض لأنها ترتبط بالظروف والمتغيرات الاقتصادية، ولذلك ينظر فيها مجلس النقد والتسليف، ويحددها بناء على الاحتياجات والظرف الاقتصادي، وأن كل الضمانات والكفلاء والأوراق الخاصة في طلبات القروض من مصارف التمويل الأصغر تحددها طبيعة القرض، ودراسته من المصرف المانح، ففي بعض القروض قد لا تكون الضمانات مطلوبة في حين يحتاج قرض آخر لضمانة.. وكذلك الكفلاء!
أخيرا
لقد تأخرنا كثيرا بدعم المشاريع الصغيرة ومتناهية الصغر التي تشكل أكثر من 95% من قطاع المشروعات، على الرغم من دورها بامتصاص البطالة وزيادة النمو الاقتصادي والإنتاج المحلي وتحسين دخول الأسر، والأهم دورها في كسر الحصار، والحد من المستوردات التي تستنزف القطع الأجنبي وتُضعف الليرة السورية.. والسؤال: هل سنبدأ قريبا بدعم هذه المشاريع.. بالأفعال وليس بالأقوال؟