“بكم غرام السعادة” بحث الأنثى عن الشغف
“بكم غرام السعادة” عنوان شائق للمجموعة القصصية الصادرة عن وزارة الثقافة – الهيئة العامة السورية للكتاب- ولا تعني أن أبطال قصص الكاتبة روسية الأصل إيرينا أناستاسيادي يعيشون السعادة، بل تجاوزتهم ورغم ذلك يجدون منفذاً للاستمرار والتكيف وإقناع الذات بالواقع. ولعل الكاتبة قصدت أن سعادتها مع قرائها الذين يسمعون موسيقا عزفها على الكلمات، والملفت أنها ابتعدت عن بيئتها ولم تكتب قصصها من مدن الثلوج، فهي تقيم باليونان وقد استمدت قصصها من “تينوس” أجمل الجزر اليونانية، وامتدت الأحداث المتعلقة بالشخصيات إلى مدن الجمال والفنون (اليونان وباريس ولندن)، فشدت القارئ إلى جمالية لغتها المستوحاة من البحر المائج وأوراق الخريف المتوارية وأشعة الشمس التي تنسحب وراء الغيوم السوداء، وانسدال المطر بغزارة، متطرقة إلى قضايا إنسانية عالجتها من الزاوية النفسية بأسلوب واقعي.
إيرينا أناستاسيادي حاضرة بصوتها الراوي بضمير المتكلم في كل القصص مقدمة إيحاءات غير مباشرة عن شخصياتها بعد سبر أغوارها ونبش عقدها النفسية، ولم يقتصر الأمر على دور السارد بصوت الأنثى حيناً وصوت الرجل حيناً آخر، فأغلب الشخصيات نهلوا من روحها وشُغفوا بالثقافة والفنون والكتابة، فمضت جدلية السرد والحوار بأسلوب بعيد عن التقليدية باعتماد خاصية المتصل- المنفصل في بعض القصص، فنرى الشخصيات تستمر بقصة جديدة عبْر أحداث وأماكن جديدة ما يربك القارئ قليلاً ريثما يربط بين الأحداث، كما تعمل الكاتبة على إشراكه بتخيل المشهد السردي السينمائي للصورة البصرية التي يدور ضمنها الحدث، من خلال مشهد درامي يبوح بحدث معين تاركة القارئ متأثراً بما قرأ يفكر برسم نهاية القصة التي يتخيلها.
لقد امتلكت الكاتبة عنصر التشويق باستجرار الأحداث، التي ركزت فيها على قيمة الصداقة الحقيقية 4للرجال والنساء، وإن كانت عند النساء أكثر عمقاً بتداول الأسرار العاطفية والخطط المستقبلية المبنية على الحلم الفيروزي ضمن الجسر الرابط بين القصص بالبحث عن الشغف الذي تنشده الأنثى رغم تحكم الأقدار. ويبدو عنصر التخيّل من العناوين المثيرة لتحريض الذاكرة والتفكير بالمضمون مثل: منتصف النهار- أشباح الماضي – تعرّف على ظلمة الليل- أكثر من هذا- لعبة الميترو وغيرها.
المتصل –المنفصل
تجمع المجموعة إحدى وعشرين قصة متنوعة من حيث الحجم والتوصيف، تنوعت فيها الصور التي عبّرت عن إحساس الأنثى بالشغف، وقد يكون مخطئاً ويوقعها بانكسار نفسي أكبر من إحساسها بالوحدة كما في قصة “أكثر من هذا”، بطلة القصة مهندسة الديكور كاليبوبي التي درست في أكاديمية الفنون مع صديقتها يفغينيا التي كان لها دور بالأحداث في القصة السابقة “الثلاثاء، التاسعة والنصف” وفي الأكاديمية عشقت جانتي أستاذ التأليف الموسيقي الحر، لكن القدر جعلها تتزوج من أمير إيطالي ثم انفصلت عنه وتزوجت ثانية من نيكيفوروس إلا أنها سرعان ما اكتشفت أنه ليس الرجل الذي تريده، ومن خلال عملها بترميم وإكساء المنازل وقعت بغرام ميخاليس وقامت بتغيير ديكور منزل أختها بعد أن أضافت مسحات لونية ورومانسية إلى كل ركن لتستقبله فيها ويتحدثان عن العمل، والمفاجأة لكنها فهمت الموضوع بشكل خاطئ وأصيبت بصدمة لحظة اعترافها له بحبها “قفز عن الكنبة بصورة خرقاء وخطا نحو الباب بسرعة، وعندما صار عند فتحة الباب صرخ قائلاً: سامحيني لأجل الرب”. أما يفيغينيا فوقعت بغرام فاسيليس وأمضت سنوات وهي معه رافضاً فكرة الزواج “لم تتوقف يفيغينيا عن الشعور بالأمل” وتستبق الكاتبة الحديث عن فاسيليس في قصة الثلاثاء التاسعة والنصف الذي يعيش وحيداً مكتفياً بحبها”
ونرى فيرونيكا في قصة “كآبة لاتطاق” تعيش أيضاً حالة إحباط عاطفي بصورة أخرى بعد زواجها من ماثيو الذي وصفته “بالغارق بين الكتب” وهي في شهر العسل “لم يكن لمثل هذا الشهر العسلي الممل والمشوّه وجود على الأرجح عند أحد في العالم”، لكن الشاطئ البارد منحها فرصة لقاء الرجل الغريب نيوستر، فحدثته عن زواجها إرضاء لعائلتها، وشعورها بالممل لاسيما على الشاطئ “تراءى البحر بلونه الفضي وألقت فيرونيكا خفية نظرة حولها جلس الناس في كل مكان واضطجعوا ورقصوا كانوا سعداء يرقصون فلم تستطع أن تقاوم شغفها به لتجد نفسها في خيمته”.
اختُتمت المجموعة بقصة قصيرة مقارنة مع بقية القصص الطويلة بعنوان “منتصف النهار” كدلالة إلى رحلة العمر، مبتدئة بالمكان بوصف المدينة “ها هي مدينة تينوس تترامى مثل نورس أبيض عملاق”، فأدخلت شخصية الراوي مع وصف المكان، وتبرع الكاتبة بتسلسل تفاصيل الحدث وتدور حول لقاء الكاتبة التي تتجول على الدراجة الهوائية بزوجين في خريف العمر مظهرة عواطف الزوجة تجاهه التي وصفتها بالأمومة، مركزة برسمها بالكلام والدلالات اللونية الطريق المتعرج الذي وصفته بالطريق الإفعواني إيماءة إلى تعرجات رحلة العمر “والطريق الأفعواني ينحدر إلى الأسفل إلى البحر الفضي البشوش” وربما أرادت أن تودع قراءَها بآخر قصة بالمجموعة بطيف الشغف الذي من الممكن أن يستمر مدى الحياة.
هذه المجموعة هي آخر ما ترجمه زياد الملا عن الأدب الروسي قبل وفاته -مراجعة د. فريد الشحف – وجاءت بأربعمئة صفحة من القطع المتوسط.
ملده شويكاني