صنعة السيناريست.. الكثير من التجريب للوقوف على أول طريق يفضي إلى ألف احتمال
“البعث الأسبوعية” ــ رامز حاج حسين
الرسم بالكلمات
قد يكون التعريف الأمثل لمدلول كلمة سيناريو هو “قدرة الكاتب على توصيف المشهد المرافق للحدث بطريقة أقرب للرسم بالكلمات، بحيث يوصّف، بطريقته الأدبية والقريبة من التقاطات الكاميرا، الحيثيات والعناصر المكونة للمشهد، لكي يتم فيما بعد قراءتها بطريقة فنية وتحويلها لمنتج منظور رسماً أو إخراجاً أو تصويراً من قبل الفنان”. لكن، وللأسف، فإن الكثير من كتاب القصة الطفلية في سورية يقعون في فخ ضياع البوصلة بين يمين الصندوق ويساره: الصندوق هنا هو الجدول الخاص بالكتابة الكلاسيكية للسيناريو، وأبسط مقومات العمل بالسيناريو فهم أن يمين الصندوق غالباً يأتي تحت بند مسماه الوصف.. هناك حيث يجب أن يضع الكاتب وصف المشهد وتفاصيل وقته وزمانه ومكانه وعناصره وحالات أبطاله القائمين بالحوار في الضفة الأخرى.
تقدير فن السيناريو
يذهب الكثير من المشتغلين في الحكاية الطفلية، أو من يقومون على إدارة مجلات أو مطبوعات دورية، واستجلاب النصوص المتعلقة بالقصص الحوارية “comic” من المؤلفين، إلى استسهال الحالة؛ فمثلاً تعرضت لتجارب واقعية كثيرة أثناء إدارة ملف مجلات الأطفال، كأن يقترح أصحاب بعض النصوص – حين ترفض أصلاً كنصوص سردية – أن يتم التعديل عليها وجعلها حوارية فقط بمجرد تقطيع الجمل وإضافة حوارات أكثر؛ وهنا الطامة في الفهم والتحليل، فالعملية أكثر تعقيداً ودقة من هذا الاستخفاف، وكاتب السيناريو يجب أن يكون أولاً رساماً بعقليته، منطلقاً من ذهنية ذات خيال خصب، وثقافة بصرية ولغوية عالية، لذلك ينجح كثيراً كاتب السيناريو عندما يكون هو نفسه رسام العمل الخاص به، وينجح بقوة أيضاً حين يكون على وفاق فكري مع الفنان الذي يعمل معه، وينطلقان من فهم ودراسات وتكثيف حوارات وجلسات عملية لوضع العمل على سكته الصحيحة، فيكتب السيناريست قصته بعيون رسام، ويرسم الفنان بفهم لكلمات الوصف من شريكه في الضفة المقابلة.
في تجمع الفنانين البلجيكيين الأشهر (مجلة تان تان)، كانت منظومة الثنائيات تفعل الأعاجيب بين كاتب سيناريو يتكئ بكل ثقله البصري على براعة فنان هو بدوره قادر بقوة على التقاط تخيلات شريكه وتوصيفاته لتحويلها إلى قطع نادرة ومدارس فنية رائدة وخالدة في مجال قصص مصورة مازلنا، حتى هذه الأوقات، نتبارى في اقتنائها لضمان الحصول على أرشيف مذهل من الكلمة والحبكة والفن المصور في مكتباتنا الخاصة؛ ويمكن تتبع تاريخ المجلة والتعمق أكثر في الثنائيات التشاركية التي أنتجت لنا هذا الكم من الجمال أدباً وفناً.
كتاب لويس هيرمان
البحث والتعلم، ولو في مراحل متقدمة من عمرنا كأدباء وفنانين، ليس عيباً، والقناعة بأننا لن نعيد اختراع العجلة، المخترعة أصلاً، نصف الطريق نحو الوصول لأهدافنا.
الكثير ممن يذهب بخطاه نحو كتابة السيناريو يتمترس، وراء نرجسية ما، بأنه قادر على الإتيان بعنق السيناريو وتطويعه من أول تجربة، بل من أول سطر له في المجال، بينما تفتح معاهد وكليات لدراسة هذا الفن لتمضي على مرتاديها سنوات طوال، قبل التجرؤ على كتابة أول محاولة في السيناريو.
من لطيف ما مر بي، أثناء قراءة كتاب “الأسس العملية لكتابة السيناريو – لويس هيرمان”، أن لكتابة السيناريو أصنافاً واختصاصات ومراحل صناعة متسلسلة، تبدأ بالفكرة لتمر بمراحل كتابة الموقف، ثم كتابة الحبكة، وكتابة ذرى الصراع، وتقوية الأحداث، مروراً برجل النكات وهو من يضيف الفكاهة للحوارات والمواقف، وانتهاء بكاتب الخاتمة أو “القفلة”؛ ورحت أرغم نفسي، ومن يستمع لنصحي، على تتبع تلك الخطوات في كل مرة نكتب فيها سيناريو ما، هنا أو هناك، فالحرفة تقتضي ذلك، ولنا أن نتخيل أن هذا الأمر يمر كله في ذهنية المستسهل لكتابة السيناريو على أنه مسلمات بديهية عنده.
الوصف بالصورة
قد يكون أقدم السيناريوهات رُسم بالصور ولم يُكتب، أو تمت عملية تمثيله بحركات إيمائية من الأم أو الجدة، ثم كثر ممثلوه فأصبح مسرحاً داخل جدران المنزل والمأوى، في عملية حكاية قصة ما، أو تدوين بطولة هنا وهناك. وجدران المعابد المصرية تزخر بقصص مصورة كأنها كوميك حديث التقنية نابض بالحيوية، يصور لك حدثاً ما أراد الكاتب والفنان أن يخلدانه، يبدأ من فلاح يزرع حقله وينتهي بملك يطارد الغزاة ويحقق نصره.
في مجلات الأطفال وكتب القصص المصورة، نحتاج إلى وعي أكثر في مجال التصدي لمهنة السيناريست، قليل من القراءة وقليل من البحث، ثم الكثير من التجريب كفيل بجعلنا نقف على أولى خطوات الطريق الذي يفضي بنا إلى ألف احتمال واحتمال ولوحة وصورة وتعبير. إن كتابة السيناريو فن متفرد بقواعده وتفاصيله وحيثياته لا يجب أبداً الاستهانة به.
يحكى أنه
من كتاب كليلة ودمنة لابن المقفع “أن هناك رجلاً طَلَبَ عِلمَ الفَصيحِ من كلامِ الناسِ. فأتى صديقاً له مِنَ العلماءِ لَه عِلمٌ بالفَصاحَةِ فأعلَمَهُ حاجَتَهُ إلي عِلمِ الفَصيحِ. فَرَسَمَ له صديقُهُ في صحيفَةٍ صَفراءَ فَصيحَ الكلامِ وتَصاريفَهُ ووُجوهَهُ. فانصَرَفَ بها إلي منزلِهِ فَجَعَلَ يُكثِرُ قِراءَتَها ولا يقِفُ علي مَعانيها ولا يَعلَمُ تأويلَ ما فيها حتى استَظهَرَهَا كلَّها، فاعتَقَدَ أنَّه قد أحاطَ بعِلمِ ما فيها، ثم إنَّه جَلَسَ ذاتَ يومٍ في مَحفِلٍ من أهلِ العِلمِ والأدَبِ فأخَذَ في مُحاوَرَتِهِمْ فَجَرَتْ له كلمَةٌ أخطأَ فيها. فقالَ له بعضُ الجماعَةِ: إنَّك قد أخطأتَ والوَجهُ غيرُ ما تَكَلَّمتَ به. فقالَ: كيفَ أُخطِئُ وقد قَرَأتُ الصَّحيفَةَ الصَّفراءَ وهي في منزلي؟ فكانت مقالَتُهُ هذه أوجَبَ للحُجَّةِ عليه وزادَهُ ذلك قُرباً مِنَ الجَهلِ وبُعدًا مِنَ الأدَبِ”.