كيتس والموت في “أنشودة إلى عندليب” و”عشية القديسة أغنيس”
“البعث الأسبوعية” ــ علاء العطار
للوهلة الأولى، تبدو قصيدتا “أنشودة إلى عندليب” و”عشية القديسة أغنيس”، للشاعر جون كيتس، وكأنهما تتحدثان عن موضوعين مختلفين كلياً، لكن المعاينة الدقيقة تبين أنهما تشتركان في رسم صورة مماثلة للموت. يتوق المتكلم في “أنشودة إلى عندليب” إلى الموت الذي سيقوده إلى التوحد مع الجمال، ويدخل في حالة شبيهة بالموت تجعله في ألفة مع العالم أجمع. وبطريقة مماثلة، يحاول المصلي المستأجَر في “عشية القديسة أغنيس” الاتحاد مع الفردوس، لكنه يفشل في الوصول :إلى الرفعة، ويموت بدلاً من ذلك، لكن “مادلين” تنجح في هذه القصيدة في الاتحاد مع عشيقها مقابل فقدان حواسها، فتخوض تجربة مشابهة لتجربة المتكلم في “أنشودة إلى عندليب”، وتتجنب عزلة الموت.. تصور القصيدتان نوعين متعارضين من الموت الموت المجازي الذي يمثل خطوة نحو الاتحاد، والموت الحرفي الذي يمثل العزلة.
يرغب المتكلم في “أنشودة إلى عندليب” بالموت، وفي هذا التصوير الإيجابي للموت، يدخل المتكلم حالة من الانسلاخ عن العالم تؤدي إلى اتحاده مع العندليب. يشعر المتكلم أنه مخدر، وينفصل عن العالم عبر الغرق في نهر النسيان الشبيه بالموت: “ما هي إلا دقيقة حتى غرقت في نهر النسيان”. وعبر الإشارة إلى نهر النسيان الموجود في الجحيم، يظهر المتكلم رغبته في الابتعاد عن عالم البشر، ليدخل الموت إلى القصيدة في المقطوعات الشعرية التالية. وحتى في هذه الأبيات القليلة الأولى، يلمّح الشاعر إلى الموت بطريقة إيجابية بحتة، إذ يختبر المتكلم موتاً مجازياً يفضي إلى الاتحاد السعيد مع العندليب. الموت ثمرة الجذل، لا الشجن:
“لا أحسدك، يا عندليبُ، على مدى سعادتك
بل إني سعيد لسعادتك”.
إن ضياع المتكلم في النسيان الناجم عن الموت يسمح له بالدخول إلى عالم العندليب السعيد، فبقطع علاقاته مع العالم، يتحد مع جمال تغريد الطائر.
في المقطوعة الخامسة، يدخل المتكلم في حالة شبيهة بالموت يسودها ظلام حالك، فيختبر العالم بلا نعمة البصر، ويؤدي هذا الموت المجازي إلى وحدة أعمق مع جمال العالم من حوله، فيجلس في الظلام ويستشعر الأشياء في الحديقة دون أن يراها:
“لا أرى الأزهار في الفسحة أمامي
ولا عبقها الرقيق العالق بالأغصان
لكني أخالها جميلة كلها في عبير الظلام”.
إن جميع الحواس باستثناء البصر موجودة في تجربة المتكلم في الحديقة، فهو يتذوق “الطعم الحلو” و”النبيذ الندي”، ويسمع صوت الذباب، ويشتَمُّ “عبير الظلام” و”مسك الزهور”، ويتلمس البنفسج المختبئ تحت أوراق الشجر. ومع أن المتكلم فقد بصره، غير أنه قادر على رؤية العالم من حوله من خلال الخيال وحده، ما يمنحه تجربة حسية حميمية مع الحديقة. ومن خلال الدخول في حالة من العمى الشبيه بالموت، يصل المتكلم إلى اتحاد عميق مع محيطه، فيمسي البصر غير ضروري، وتشكل حواسه الأخرى صلة أوثق بينه وبين الكائنات الجميلة في الحديقة. ومع أنه يرغب في الموت وأن يتحد مع الجمال، إلا أنه يتهرب من بشاعة الموت الجسدي، إذ يبوح المتكلم في المقطوعة الثالثة بأن رغبته في الذوبان يدفعها رغبة في تجنب الموت والمعاناة في العالم، يود أن ينسى العالم “حيث يذبل الصبا، وينحُلُ الجسد ويموت”.
لا الجمال ولا الحب الحقيقيان يوجدان في عالم كهذا، لذا يرغب المتكلم في تجاوز تبدلات العالم لأنها تجعل الجمال والحب زائلين. وفي نهاية القصيدة، تحبط محاولة المتكلم في الموت المفضي إلى الاتحاد مع العندليب عندما يدركه الموت الفعلي، فيسحب المتكلم من رؤياه في الاتحاد مع خلود العندليب. ويعارض هذا الموت الانزلاق الشبيه بالموت نحو الوحدة التي يرغب بها المتكلم، بمعنى أن موت البشر الموحد يذيب الذات في الكل، ويضع البشر في شراكة مع محيطهم، في حين أن الموت الفتاك بالبدن يضعهم في عزلة قاتلة.
في قصيدة “عشية القديسة أغنيس”، يصور كيتس عزلة الموت من خلال شخصية المصلي المستأجَر، ففي حين يسعى هذا القديس إلى الاتحاد مع الله عبر الصلاة، لم يستطع تحقيق ذلك، ويموت في النهاية وحيداً.
تبدأ القصيدة بوصف القديس وهو يصلي في البرد القارص، وتصف أنفاسه “تحلق إلى السماء بلا موت”. يبدو هذا الوصف إيجابياً، بمعنى أن القديس بإمكانه أن يوصل صلاته إلى الله دون أن يموت، ويحقق الوحدة معه دون تضحيات، لكن الأسطر التالية تبين أن مصيره مرتبط بعزلة مميتة، إذ تحيط به تماثيل الموتى التي تصطف على جانبي ممر المصلّى.
كما أن التماثيل منشغلة بالصلاة حتى في حالة موتها:
“تماثيل موتى جامدة على كل جانب
محتجزة في سجن حجري أسود”
تحاول التماثيل أن تتحد مع الله، كما حال القديس، لكن بدل أن تتجاوز نطاق أنفسها، ظلت محاصرة وراء قضبان تقواها. ويربط الجو البارد المنحوتات بالموت، ويعيش القديس والتماثيل في عالم ميت بارد. وتشير اللغة المستخدمة إلى أن التماثيل تتألم. وتصوير القديس على أنه رجل “هزيل، حافي القدمين، ضعيف” يربطه بوصف الموت السلبي في “أنشودة إلى عندليب”.
ويرتبط القديس ومُصلّاه بعزلة الموت، إذ يبدو أن صلواته تأخذه في “رحلة إلى جنة بلا موت”، لأنه فشل في بلوغ الموت الموحد الذي يمكن أن يربطه بالجمال؛ وبدون ذلك، يتجمد ومصلاه، ويفشل في تجاوز نطاق نفسه، ما يؤدي به إلى العزلة.
شأنه شأن المتكلم في “أنشودة إلى عندليب”، يتفاعل القديس مع الموسيقا ويقاسمها فرحتها، مع أنه عاجز عن دخول الأغنية بكاملها لأن موشك على الموت. وعلى الرغم من أنه “دموعه انهمرت” عند سماعه أنغام “لسان الموسيقا الذهبي”، يُجذَب القديس من الموسيقا بسبب ارتباطه بالموت:
“لكن لا – وقد قرع جرس الموت الآن
انتهت جميع أفراحه”
ومثلما انتزع الاعترافُ بالفناء المتكلمَ في “أنشودة إلى عندليب” من رؤياه، لن يسمح ارتباط مصير القديس بالموت له بالاتحاد مع الأغنية التي تلامس مشاعره. وبالرغم من أنه حي في الجسد، إلا أنه يعجز عن مشاركة العالم فرحته، ثم يتحول موته في الحياة إلى موت فعلي في نهاية القصيدة، حيث يموت وينساه العالم.
يصور كيتس الموت الموحد من خلال شخصية مادلين، فبينما تموت مجازياً، يوحدها موتها مع حبيبها بورفيرو. ويجب أن تلتزم مادلين الصمت أثناء محاولتها إكمال طقوس القديسة أغنيس، ويقارن كيتس صمتها بطائر يحتضر:
“كما لو أن عندليباً يتلوى عبثاً من الألم
داخل صدرها، فتموت في عزلتها مخنوقة القلب
تؤدي جهود مادلين للتوحد مع زوجها المستقبلي إلى فقدانها صوتها، وتغط في نوم يشابه الموت: روحها “متعبة” و”أصابها العمى، فلا ترى شمساً ولا مطراً”. ولكن مثلما قاد العمى المتكلم في “أنشودة إلى عندليب” لاتحاد كامل مع العالم، يسمح فقدان مادلين حواسها المشابه للموت بالاتحاد مع حبيبها بورفيرو. لم يكن مادلين وبورفيرو قادرين على إتمام حبهما لولا أن مادلين دخلت حالة نصف النوم، و”يذوب” بورفيرو في حلمها، وتصيب مادلين الصدمة عندما تستفيق في العالم الواقعي لتكتشف أنها نامت معه لأنها كانت تعتقد أنه مجرد طيف مر في أحلامها. وفي حين أن حبهما نتيجة موت رمزي، إلا أنه يؤدي إلى اتحاد الزوجين؛ وتقول مادلين إن “قلبها ضاع في قلب [بورفيرو]”، ما يشير إلى أنهما متحدان على المستوى العاطفي والجنسي كذلك.
موت القديس يعزله، في حين أن موت مادلين المجازي يوحدها مع حبيبها. ويوضح كيتس كذلك الاختلاف بين نوعي الموت بتغير جذري في درجة الحرارة، فبينما كان مكان موت القديس شديد البرودة، كان عالم العاشقين مليئاً بالصور الدافئة مثل “جانب [مادلين] الدافئ”. وفي حين أن صور الموت نفسها تصف كلاً من تجربة القديس والزوجين، يقاسي القديس موتاً منعزلاً يعارض موت مادلين الموحد ويعاديه.
ويتميز هروب مادلين وبورفيرو بالموت الرمزي، ذلك الموت الموحد الذي يناقض عزلة الموت من حولهما. وتلاحظ جاكلين بانيرجي، وهي أستاذة في كلية كينغز كوليدج لندن، أن هروب العاشقَين هو نوع من السمو فوق الموت الذي يتخلل محيطهما، إذ تتجنب مادلين وبورفيرو الموت “القبيح” الذي حل بالقديس في نهاية القصيدة. غير أن كيتس يقارن العاشقين بالأشباح وهما يهربان معاً:
“انسلا كشبحين إلى الرواق الواسع
كشبحين إلى الشرفة الحديدية.. انسلا”
ولكي ينالا حريتهما ويتحدان معاً، يجب على الزوجين الدخول في حالة صمت أشبه بالموت، كحالة فقدان مادلين لحواسها. لكن هذا النوع من الموت يشبه العندليب المحتضر، وله نتيجة إيجابية، وهي أن الزوجين قادران على الهروب من الموت الحرفي الذي تهدد عائلة مادلين بورفيرو به، ويتابعان طريقهما ليتحدا معاً تحت سقف واحد.
تتحرك قصيدتا “أنشودة إلى عندليب” و”عشية القديسة أغنيس” في اتجاهين متعاكسين؛ إذ يبدأ المتكلم في الأولى بحالة شبيهة بالموت تجعله سعيداً بالاتحاد مع العندليب، ولكن في النهاية، ينفصل عن رؤيته بسبب الواقع القاسي لعزلة الموت الحقيقي. وفي حين أن قصيدة “عشية القديسة أغنيس” تبدأ بعزلة القديس من خلال الموت، تتحد مادلين بنجاح مع بورفيو بعد أن فقدت حواسها، وباتت في حالة تشبه الموت. توحد كلا القصيدتين الموت وتعزلانه في حالة توتر، ولا تختلفان في تصوير نوعَي الموت، بل في نوع الموت الذي ينتصر في نهاية كل قصيدة منهما. الموت في نظر كيتس أمر لا مفر منه، لكن السؤال ليس عما إذا كانت الشخصيات في قصائده ستموت، بل أي الموتين ستكابد؟!!