نؤمثل ماضينا بمقدار ما يجرحنا بؤس حاضرنا
البعث الأسبوعية” ــ أوس أحمد أسعد
انطلاقاً من المسلّمة الفكريّة القائلة بأنّ “الأسئلة هي المحرّض الأكبر على إنتاج المعرفة”، وعلى اكتشاف العيوب الذّاتيّة أكثر من الأجوبة التي تبقى قاصرة وضيّقة أمام طاقة العقل المنفتح والقابل للتطّوّر، فإنّ مفكّري العرب أعملوا عقولهم في البحث عن أسباب النكوص والتخلّف عن اللّحاق بركاب العالم المتحضّر، فرأوا بالأنموذج الغربي مبتغاهم الذي استطاع أن ينتج حداثته من داخل منظومته الفكريّة ذاتها، عبر القطيعة مع الأفكار النمطيّة والماضوية التي شرنقته فيها العصور الوسطى، إذ قام بمراجعة شاملة ليقينيّاته السابقة، متشكّكاً في الأسس المؤبدة التي قيّدتْ العقل ومنعته من إنتاج مشروعه الثقافي المعرفي، بما يتناسب مع المستجدّات الهائلة حوله، لينجح فيما بعد في القيام بنهضته على أسس عديدة، منها إيمانه بقوّة العقل، وبأنّ الإنسان هو القيمة الأعلى في هذا الوجود، مستثمراً ما أنتجته العقول العلميّة الكبيرة، وبالتحديد “نسبية أينشتاين” التي شكّلت نقلة نوعيّة هائلة على مستوى إسقاط الفكر الغيبي من عليائه، ليصبح الإنسان هو منتج الفكر، لا الميتافيزيقيا. لقد أتتْ لحظة صحوة الغرب في سياق موضوعي تطوّري ناضج أنتجته تراكمات تاريخيّة طويلة ساهمت في فكفكة القيود التاريخيّة، سلسلة وراء أخرى، حيث اتّضح أنّ التيار العقلاني في الثقافة الغربيّة كان حاضراً بقوّة منذ القرن الخامس عشر على الرغم من حملات الاضطهاد القوية التي تعرّض لها، وليس مصادفة أن تشكّل لديه يقين قاطع، منذ القرن السّابع عشر، بأنّ الواقع الجديد يتطلّب طرح أسئلة جديدة وأجوبة جديدة هدفها تحرير العقل وتأهيله لبناء مشروعه الحداثويّ الذي يستجيب لمتطلّبات اللحظة الراهنة، بعيداً عن أيّ تأثيرات داخليّة أو خارجية. كما يقول الدكتور غسان السيد في كتابه (جورج طرابيشي، رجل الفكر والتّنوير)، الصادر عن الهيئة العامة السورية للكتاب، 2021.
وقد قسّم “طرابيشي” المفكّرين العرب، المتأثّرين بالنّموذج الغربي إلى ثلاثة تيّارات:
– تيّار يدعو إلى قطيعة حتميّة مع الماضي، كونه منبت الأجوبة الجاهزة للحاضر والمستقبل، كما كان يشكل أجوبة للماضي، وبذلك فقط يتمّ تحرير العقل وتوليد الفكر.
– تيّار معارض للسابق يدعو إلى العودة إلى الماضي كرافعة لكلّ فعل تحرّري نهضوي.
– تيّار توفيقيّ حاول تمثّل الأنموذج الغربي، ودعا بنفس الوقت إلى الاتّكاء على مداميك الماضي. وقد تصارعت هذه التيارات على أرضيّة التراث، برموزها المختلفة “محمد عمارة، زكي الأرسوزي، زكي نجيب محمود، ومحمد عابد الجابري، وغيرهم”، ونسيت أن المعركة تدور على أرضيّة الواقع لأنّه الأساس. وهذا ما دفع طرابيشي إلى تأليف كتاب بعنوان استفزازيّ مقصود هو “مذبحة التراث في الثقافة العربيّة المعاصرة” حلّل فيه ذهنيّة هذه التيّارات المتصارعة، ودورها الثقافي في إعادة قراءة التّراث على أسس مغايرة، وتنطّحها لقيادة المدّ التّحرّري الشّعبي في أوقات متفاوتة بعد الاستقلال. لم يستثنِ من نقده أحداً، لا الماركسيين ولا القوميين أو العلمانيين البراغماتيين أو الإبستمولوجيين، .حيث استخدم الجميع – برأيه – مبدأ الإسقاط الأيديولوجي في تعاملهم مع هذا التّراث. يقول في كتابه هذا: “إنّ مثل هذا التّوظيف للتراث قد يدخل في تعارض مع الوظيفة المعرفيّة بحدّ ذاتها.. إنّها حرب التراث ضدّ التراث، وتذليل التراث بالتراث”. فالماركسيّون على لسان أحد رموزهم، توفيق سلوم، دعا لتشطير التراث بحيث يُؤخذ منه الأفكار والأحداث والمواقف الشّاحذة للهمم بما يعزّز الوحدة الوطنية والقومية وإشاعة التسامح الديني وإعلاء شأن العقل والعلم. ويقول طرابيشي مشكّكاً: ماذا ترك للسّلفيين ليقولوه؟
وممثلو التيّار القومي “العلمانيّون والإسلاميّون” لا يختلفون كثيراً عن بعضهم، العلمانيون كـ زكي الأرسوزي يختارون فترة العهد الجاهلي للبناء عليها، بينما الإسلاميّون كـ محمد عمارة يرونها في مرحلة صدر الإسلام؛ ويتناسى الجميع أنّ ثقافتنا التاريخية بنيت على الوحدة لا التعدّد منذ عصر التدوين. حيث نقد الحقيقة المطلقة التي كرّسها النص الديني يؤدي لزعزعة المفهوم اللّاهوتي القائم على الواحديّة لصالح تعدّد الحقائق. وهذا ما لا يقبل به دعاة العودة إلى الماضي واستلهامه لتوجيه دفّة الواقع، فالغرب قامت نهضته على إلغاء الطريقة التّلقينية الاستنساخية المستوحاة من طريقة التعليم الديني تحديداً. يقول طرابيشي: “هكذا نؤمثل ماضينا بقدر ما يجرحنا بؤس حاضرنا”، ويتناسى عمارة أنّ الحضارة العربية الإسلامية لم يكن للعقل حظّ الصدارة فيها، لأنّ سلطة العقل كانت تسويغيّة محكومة بسلطة النصّ الديني المهيمن، حيث الحقيقة المطلقة واحدة وأبديّة لكلّ زمانٍ ومكان، بينما المطلوب هو تحرير العقل وتحفيزه بحريّة على إنتاج أسئلته الرّحبة دون الخضوع لأيّة سلطة، فما فعله الغرب هو نقد الواقع، والمعرفة، والسلطة المركزيّة المهيمنة من أيّ جهة كانت، بل ونقد العقل ذاته وطرق تفكيره، كما فعلت تيّارات ما بعد الحداثة.
للأسف، إنّ عمليّات التّحديث التي شهدها العالم العربي منذ بداية القرن العشرين عملتْ، فقط، على تغيير الأنساق الاجتماعية والسياسية والاقتصاديّة، دون العمل بشكلٍ متوازٍ على تغيير العقليّة الثقافيّة وطريقة التفكير، حيث ظلّ اشتغال الفكر على القشرة الخارجية، ولم يصلْ إلى عمق البنية الذهنيّة الغارقة بأجوبة الماضي. وهذا ما حفّز العقليّة الأصوليّة بعد أن خلتْ لها السّاحة، وقد تقاطعتْ أهدافها، مع أهداف السّلطات السياسية بمراحل مختلفة. ليعملا سويّاً، على بتر بتلات الفكر التّنويري الحقيقي، كلّما حاول أن يرى النّور. وآخر مجزرة لهذا الحلف الرّهيب، تمثّلتْ بـ “الربيع العربيّ” المثقل بالدماء.