ثقافةصحيفة البعث

ميادة بسيليس..على قدر أهل الحب

عدة أسباب جعلت من حضور الفنانة السورية “ميادة بسيليس” أكيداً وواثقاً وراسخاً في وجدان الجمهور المحلي أولاً والعربي الذي سحره فنها في مقام تال، الجمهور المحلي، الذي كان هو بوصلتها، في مختلف محطاتها الفنية الهامة، والتي انطلقت منذ ثمانينات القرن الماضي، وحتى اللحظة التي أغلقت فيها عينيها إلى الأبد، والتاريخ يشير إلى يوم عزيز وغال، لا بد سيمر حزيناً على أسرتها وعلى كل السوريين الذين أحبوها، يوم عيد الأم.

أما أول هذه الأسباب وأهمها، فهو غناءها باللهجة المحلية، في الوقت الذي كان فيه معظم أهل الغناء يتجهون للغناء باللهجة المصرية، بغية تحقيق شهرة أوسع، وكان أن فازت هي بقلوب السوريين أولا وهذا الأهم، فتحقيق وإثبات الوجود المحلي في الفن، كما يقول رسول حمزاتوف –العالمية تبدأ من عتبة بيتي-هو الأساس وهو الأجدى والأكثر رسوخاً وحضوراً، وهو من يعول عليه في الانطلاق نحو عوالم وفضاءات أبعد وأوسع، وهذا ما كان، فمن تحقيقها لذاتها الفنية محلياً، ومن محبة السوريين لفنها وشخصها النبيل، طارت شهرتها وحلقت بكل بهاء وأبهة، في فضاءات بعيدة، باختيارها الناجح للكلمات العذبة واللحن الرائق، لتجيء معظم أغانيها مشغولة بذهب الكلام ورقة المعنى ولطافة الإيحاء، وهو أمر لم تتنازل عنه في كل رحلتها الفنية. “تطعيمها” الغناء ببعض من “اللكنة” الحلبية الشهيرة، والتي كانت سبباً في استحضارها لأجواء الغناء الحلبي الأصيل، والذي كان قد تراجع من المشهد الفني المحلي.

هذه الأسباب مجتمعة وغيرها، خلقت حالة غنائية فريدة في المشهد الغنائي السوري، خصوصاً وأنه ارتبط أيضاً لدى الجمهور بمختلف شرائحه، بكون من تغنيه وتقدمه بصوت متمكن وعذب، صاف وقوي، أنثوي وحنون، لا تعتمد إلا على صوتها وحسن اختيارها وطريقة أدائها الخاصة والتي لا تجارى، في الوقت الذي كان انتشار سوق الفضائيات، وما تم الترويج له على أنه من متطلبات هذا السوق، بحجة أثبتت ميادة كذبها –هذا ما يريده الجمهور-  لتحقق “بسيليس” لنفسها بهذا، مكانة مرموقة بين الكبار في عالم الغناء، أمر نجحت في تحقيقه بتعب وصبر وحكمة في اختيار الخطوات، وانتقاء الكلمات واللحن، مع شريكها في الحياة والفن الموسيقار “سمير كويفاتي”.

الحلبية الأصيلة، عرفت ومنذ البداية ماذا تريد، عرفت ذلك من خلال معرفتها لنفسها أولا، ومعرفتها لمجتمعها السوري بمختلف شرائحه، فجمهور “السميعة” لا يطرب إلا للغناء المليح، وكل “بهرجات” الميديا لا تعنيه، لتجيء أغانيها “متوالفة” ومزاج هذا الجمهور، ولتكسب احترامه قبل حبه، ولتفز بتصفيقه و”أهات السلطنة” الخارجة من خلجات الصدور، قبل الصفير والزعيق المفتعل!

ورغم أن الفنانة الراحلة كانت قد بدأت حياتها الفنية باكراً، منطلقة من خشبات ومسارح حلب، مدينة الأصالة في الغناء، إلا أن شهرتها التي طافت الآفاق، حققتها أغنيتها الشهيرة “كذبك حلو”، الأغنية التي طارت من بين أنفاسها، وحطت في قلوب الناس، في البيت، في العمل، السيارة، في الكافتيريات والمطاعم، في المحال التجارية، وحتى على “البسطات”، باختصار لقد دخلت هذه الأغنية بصوت ميادة، قلب كل من سمعها، وصارت تخصه وتعنيه؛ أغنية أحبها وتوله فيها العشاق، سلطن عليها الكبار والصغار، غنتها ربات البيوت وهن يطهون الطعام، رددها الرجال في السهرات، تهاداها المراهقون على شرائط الكاسيت، ترنم بها الكهول في السر تارة وفي العلن تارات؛ لقد فازت هذه الأغنية البديعة بقلوب الجميع، فلقد خاطبت أولا وقبل أي شيء آخر أرواحهم، ليصبح صوت ميادة بسيليس، من الأصوات النادرة التي أجمع عليها السوريون، من شمال البلاد لجنوبها، ومن مشرقها لمغربها.

نقلت بسيليس مزاج الأغنية السورية الأصيلة والجميلة إلى العالم، بعد أن حملتها إلى جغرافيات بعيدة، وفازت حيث وصلت بالانتباه والجوائز، التي لم تكن تشغل بالها، فالجوائز هي من سعت إليها، وهذا طبيعي في حالة خاصة وفريدة كالتي قدمتها للعالم، وهذا ما تؤكده مسيرتها الفنية، التي لم تخفت بوارقها اللامعة طيلة حياتها، ولن تخفت بعد رحيلها.

خبر رحيل ميادة بسيليس، طاف عالم الميديا بمختلف وسائله، تناقله السوريون في الداخل والخارج، وكأنهم يتناقلون خبراً عائلياً يخصهم، وهذا صحيح، فقد تركت هذه الفنانة العظيمة في دواخل كل من لامسته أغانيها، ذكريات حارة مرتبطة بها وبصوتها وبإحدى أغنياتها على الأقل، وكما فعلت في حياتها، من توحيد للمشاعر وتأليف للقلوب، فعلت برحيلها ذات الشيء، فلقد نعى كل سوري من أهل الحياة والانتصار لها، قامة فنية عال حبقها وغال، إنسانة غنت للحياة بمختلف ضروبها بأصالة وحب وصدق، فحملتها النفوس بين أنفاسها، ورددت أغانيها بجنائزية مهيبة، وهي ترفع صلاة الحزن على رحيلها، كأصدق ما يكون الحزن، وأجمل ما يُخرج من النفوس.

الفنانة الراحلة من مواليد حلب 1967، بدأت مشوارها الغنائي منذ نعومة ضفائرها، صدر لها 14 ألبوماً بداية من العام 1986 حيث كانت البداية مع البوم “يا قاتلي بالهجر” وهي أغنية من الفلكلور السوري، أغلق الموت عينيها بعد صراع مع مرض السرطان في ربيع دمشق 2021.

تمّام علي بركات