المعلمون في عيدهم.. إصرار على أداء الرسالة وبناء الإنسان
عند حديثِ المرء عن شخصيات مؤثرة في حياته، غالباً ما تقفز من الذاكرة صورة ذلك المعلم الذي كان له القدوة والمثل في سلوكه اليومي، ليس في المدرسة فحسب بل في كل محطة من محطات يومياته. وليس من باب المبالغة وصف المعلم بأنه الشمعة التي تذوب لتنير درب الأجيال، فهذا الوصف أو الرسم الذي نجده اليوم منتشراً في صفحات التواصل الاجتماعي لا تملق فيه ولا مبالغة، بل هو تعبير حقيقي عن حالة اجتماعية أو صورة ذهنية ارتسمت في ذاكرة المجتمع حول شخص أمضى معظم سنوات عمره واقفاً أمام طلابه بلا كلل أو ملل، مقدماً الزاد المعرفي والمقوم الأساسي لبناء شخصية الإنسان.
دور بارز
وقد برز دور المعلم واضحاً وجلياً خلال الحرب الكونية على الوطن، فمنذ الساعات الأولى للحرب ارتدى المعلم السوري لباس الحرب انطلاقاً من قناعته المطلقة بأن الحرب السورية هي حرب بين الجهل والعلم، فعبّر عن إصراره على مواصلة العملية التعليمية مهما حدث، إيماناً منه بأن استمرار هذه العملية يشكّل حجر الزاوية في الانتصار بتلك المعركة، وقد تكون فاتورة المعلم التي دفعها هي الأكبر نظراً لخصوصية مهنته وانعكاسها على سير حياته بشكل عام.
تقول نقيبة معلمي السويداء هند جربوع إن المعلمين أدوا أدواراً رائعة في النضال الوطني والدفاع عن الأرض، فقدّموا العديد من الشهداء وازدادوا تألقاً وهم يقدمون أرواحهم رخيصة، متحدين قذائف الموت والإرهاب، ففتحوا مدارسهم وعلموا أبناءهم لإيمانهم المطلق بأن الكلمة هي رصاصة الانعتاق من الإرهاب وداعميه، وهي السبيل لمواجهة الفتن، فكان شعارهم “بالروح نفدي وطنا”، ووقف المعلم السوري يخطّ مستقبل الوطن بالصمود والثبات سلاحه كلمة طيبة وعقل مبدع وعطاء خلّاق وفعله رسالة سامية، بصمت يعطي وبجلال يعمل، ينشر النور في كل مجال، يذوب كشمعة مستكيناً في محراب التضحية والفداء، تاركاً تراثاً من الفكر والمعارف والمثل وأجيالاً طالعة إلى النور والحياة والمستقبل.
ومعركة المعلمين ضد الجهل والإرهاب لم تكن بالعزيمة والإصرار فحسب، بل قدّمت الأسرة التربوية العديد من الشهداء الذي استُشهدوا وهم على رأس عملهم، ومنهم الشهيد خلدون دنون والذي تقول عنه شقيقته سماهر إنه بدأ مسيرته في خدمة وطنه وأبناء مجتمعه، كمدرّس جغرافيا، ثم كمدير مدرسة في قرية قنوات، واستُشهد مقلداً بوسام الفخر والشرف، وهو على رأس عمله وأثناء تأديته رسالته، برصاصة غدر استقرت في عنقه، ورغم أحداث الحرب في سورية وبالتحديد في حلب التي كانت تُسمّى بالمنطقة الساخنة، إلا أنه أبى إلا أن يقوم بواجبه المهني الوطني، مردداً إن لم أعد حياً سأعود شهيداً، وعاد شهيداً.
وكغيرها من أسر الشهداء عبّرت دنون عن فخرها باستشهاده: “لأننا نشأنا على ثقافة العطاء والبذل والوطنية والمواطنة، ولطالما يقف الجندي بصمود ليحرس الوطن ويدافع عن الأرض والعرض، يقف المعلم شامخاً ليبني العقول ويغرس القيم، وكلاهما بطل في مكانه”.
عمل إضافي
ولم يكن المعلم السوري خارج حلقة الضائقة الاقتصادية التي أصابت كل أبناء الوطن، بل يمكن القول إنه من أكثر الشرائح الاجتماعية تضرراً لخصوصية واقعه ووضعه الاجتماعي الذي يفرض عليه عدم ممارسة أي عمل إضافي آخر، ليبقى المعلمون تحت وطأة الضغط المعيشي الخانق الذي يفرض عليهم ردم الفجوة الكبيرة بين احتياجات أسرهم اليومية ورواتبهم التي لاتكفي أسبوعاً واحداً لسدّ تلك الاحتياجات، مادفع بهم إلى البحث عن أفقٍ آخر لتأمين مدخول إضافي لردم جزء من تلك الفجوة، ولكن بشروط فرضتها عليهم طبيعة واقعهم.
يقول المدرّس أسامة إنه اختار طريق التعاقد مع معاهد تدريسية خاصة، فهو الخيار الأفضل أمامه لبقاء المعادلة متوازنة بين الواقع المادي المتردي والواقع الاجتماعي الخاص للمدرّس.
أما المعلمة رشا فقد اختارت دروس المتابعة، وهي تسمية أطلقت حديثاً لتدريس الأطفال ومساعدتهم في حلّ وظائفهم في المنازل. تقول عنها إنها إيجابية جداً، وخاصة في ظل صعوبة المناهج والتي لا يستطيع معظم الأهالي مساعدة التلاميذ على متابعتها، وفي الوقت نفسه تشكّل دخلاً مقبولاً لها بعمل ضمن الدائرة ذاتها.
وإذا كانت الحياة صعبة والدخل متواضعاً، إلا أن ذلك لا يمنع المدرّس علي من متابعة عمله كمدرّس بصورة أخلاقية، فلا يجب أن تتوقف مسيرة التعليم رغم ما يعترضها من مشكلات كثيرة لاتنتهي، لذلك فهو مصرّ على الاستمرار، أما أيام العطلة فيقضيها يعمل في بستانه، لأن الموسم الزراعي كفيل بتحقيق دخل مقبول له وإن كان ذلك يفرض عليه جهداً إضافياً قد يكون مجبراً عليه.
إصرار وعزيمة
والمعلمون وهم يحتفلون اليوم بعيدهم لاشك أنهم أكثر إصراراً وعزيمة على مواصلة معركتهم رغم كل ما يحيط بهم من آلام معيشية خانقة. وهنا تبرز أهمية تحسين واقعهم المعيشي ومعاملتهم معاملة خاصة انطلاقاً من خصوصية واقعهم الاجتماعي، فكانت بعض الخطوات الإيجابية بهذا الاتجاه ومنها زيادة طبيعة العمل أو رفع أجور ساعات التدريس للمدرّسين خارج الملاك.
ويبقى الاحتفال بعيد المعلم في سورية له خصوصيته، لما يتحمّله من ضغوطات كبيرة وآلام معيشية خانقة، وما يحمله من إصرار وعزيمة على مواصلة المعركة. ويشكّل هذا الاحتفال محطة مهمّة، خاصة وأن التلاميذ يتسابقون لتهنئتهم كلّ بطريقة، وأجمل الطرق تلك البطاقة التي كتب عليه التلميذ “أحبك يا معلمي”.
رفعت الديك