أمهات أكبر من العيد
يبتسم رغم أن عالمه الضيق ينحصر من بداية الشارع حتى نهايته، حينما يتابع بشغف السيارات المسرعة بالاتجاهين، ويرى قليلاً من المارة المشغولين بهواجسهم اليومية، وتسعده شجيرات الياسمين المحملة بالوريقات البيضاء المتعرشة على أسوار الأبنية، ويعود ليصغي إلى ترنيمات صوت أمه وهي تغني له وتقود كرسيه المتحرك منذ عشرين عاماً.
سألتها ذات يوم، لماذا لا تضعينه بمركز متخصص بما أنك مقتدرة مادياً، وهناك سيجد أساليب متطورة للرعاية النفسية والصحية؟ أجابتني أريده أن يبقى معي وأخدمه حتى آخر لحظة في حياتي، أو حتى يأخذ الله أمانته ويرقد بسلام، كما أنه مسالم جداً لم يستطع متابعة دراسته لوضعه الصحي، فيمضي وقته يطالع من الكمبيوتر الصغير أو الجوال، ويشاهد التلفزيون، وأنا أحيطه بكل ما يجري حولنا، أدعو الله أن لا يتألم أكثر. لقد أصيب بمرض ضمور العضلات وهو في الرابعة من عمره ووهبته منذ ذاك الوقت أغلب وقتي.
هذه الأم التي مضى بها القدر لتواجه مصير ابنها، وتعينه على الصبر ومواجهة قدره، حالها يشبه حال أمهات كثيرات نراهن بالشارع والأسواق يقدن الكرسي المتحرك لأبنائهن وعلى وجوههن تبدو علائم الحزن، وترد نظراتهن على تساؤلات المارة الخفية “لماذا تخرج ابنها إلى الشارع”؟
لا أحد يعرف أنها تحاول أن تخرجه من جدران الغرفة ليرى الحياة التي هو بعيد عنها، ليشعر بشيء من روحها، ليعيش زمناً قصيراً بين الناس.. ربما يجعله يتخطى حزنه قليلاً.
ينسحب هذا المشهد إلى مشهد ربما أقل ألماً لكن المعاناة التي تعتصر قلب الأم ذاتها، إلى أمهات الأطفال واليافعين من ذوي الإعاقة اللواتي يفعلن المستحيل لدمجهم بالمجتمع وتدريبهم على بعض المواهب والفنون، ومتابعة التعليم ضمن الإمكانات المتاحة، وكذلك الأم التي يعاني ابنها أو ابنتها من مرض التوحد. والأم التي تقضي فرحة العيد مع طفلها المصاب بالسرطان في المشفى وتدعو الله بدموعها أن يشفيه.
أمهات كثيرات أكبر من فرحة العيد لكنهن رغم كل شيء راضيات بحكم القدر، أما الأمهات اللواتي فقدن أولادهن بمشيئة الله، وأمهات الشهداء فالكلمات عاجزة، تتضاءل ولا تملك القدرة على أن تصف كيف ستمرّ عليهن ساعات يوم العيد، ولا يدرك أحد إلا الله نبض الحنين الذي لا يخمد إلا بالموت.. هنّ جميعاً أكبر من الكلمات وأكبر من العيد.
ملده شويكاني