السياسة الخارجية الروسية والشرق الأوسط
محمد نادر العمري
خلال الحرب الباردة، حظيت منطقة الشرق الأوسط بأهمية إستراتيجية خاصة للاتحاد السوفييتي، إذ كانت القيادات السوفيتية السابقة تقارب علاقاتها السياسية والثقافية مع الكثير من دول المنطقة ببعد إيديولوجي واضح المعالم، لكن مع انهيار الإتحاد السوفييتي، تراجعت الأهمية النسبية لهذه الدول في سلم أولويات السياسة الخارجية الروسية، وبخاصة أنها في المرحلة الأولى من بعد تفكك الاتحاد أعادت هيكلة أهدافها ومصالحها في المنطقة بشكل تراجعت فيه الأهداف الإيديولوجية مقابل الأهداف الاقتصادية.
وبعد ظهور روسيا الاتحادية، ومع تولي بوريس يلتسن الحكم عام 1991 انتهجت القيادة الروسية سياسة خارجية مخالفة للإتحاد السوفييتي، حيث عمل يلتسن على التوجه غرباً وحاول كسب رضا الولايات المتحدة وجيرانه الأوروبيين، لكن سرعان ما أعادت القيادة الروسية النظر في علاقاتها مع الدول الشرق الأوسطية. ومع وصول فلاديمير بوتين للحكم عام 2000 سعى لإعادة أو استعادة شيء من مكانة روسيا الدولية بشكل تدريجي ضمن رؤية إستراتيجية، ويظهر اهتمامه الحيوي في سياسته الخارجية تجاه الشرق الأوسط من خلال تعزيز وتطوير الاتفاقيات الاقتصادية التي أبرمتها موسكو في المنطقة، وخاصة في مجال النفط والغاز وفي مجال الأسلحة، وبدأت روسيا في هذه الفترة تبرز كأحد القوى العالمية من خلال مواقفها، ولعل أبرزها الرفض الروسي للاحتلال الأمريكي للعراق عام 2003، وسعيها لإجراء مصالحة بين القوى الفلسطينية.
وبالنظر إلى السياسة الروسية تجاه الشرق الأوسط في مرحلة ما بعد الحرب الباردة، وبخاصة في عهد بوتين، نجد أن ثمة مجموعة من الاعتبارات تبنتها إستراتيجية ما بعد الحرب، من أهمها:
– بناء قوة روسية بشكل مستقل عن النموذج الغربي الجاهز، وقد عبر بوتين عن هذا في خطاب له أمام البرلمان 2002 بقوله: “لأن روسيا دولة تصون قيمتها الخاصة وتحميها وتلتزم بميراثها وطريقها الخاص بالديمقراطية”.
– تحقيق الأمن للحدود الجنوبية ومنع امتداد الصراعات الإقليمية إلى المناطق الجنوبية من كومنولث الدول المستقلة الذي نشأ بعد تفكك الإتحاد السوفييتي، حيث تخشى روسيا من اندلاع صراعات إقليمية متصاعدة، أن تنعكس على نطاق واسع وتمس مصالحها السياسية والاقتصادية والعسكرية والأمنية والثقافية، لذلك تدخلت بشكل سريع في جورجيا 2008 وسارعت لاحتواء أزمة إقليم كرباخ نهاية عام 2020.
– كما مثلت مسألة الإرهاب العابر للحدود، والذي تطورت مفاعيله منذ أحداث 11 أيلول 2001، أحد الأسباب الرئيسية التي جعلت موسكو تزيد اهتمامها بمنطقة الشرق الأوسط، والعمل على توسيع علاقاتها مع بلدان تلك المنطقة، وتعزيز بنود التعاون الأمني والاستخباراتي في علاقاتها الثنائية أو متعددة الأطراف.
– ضمان المصالح الروسية في منطقة الشرق الأوسط عموماً، والمنطقة العربية خصوصاً على مختلف المستويات، وهو ما أكده يفغيني بريماكوف وزير الخارجية الروسية الأسبق.
– العمل على الاستفادة من القدرات الاقتصادية للمنطقة، إذ ترى روسيا أن هناك إمكانية لإقامة روابط اقتصادية بين روسيا ودول المنطقة، من خلال إيجاد شركاء اقتصاديين وأسواق تجارية ومجالات واسعة للاستثمار وسوق للسلاح وتهدئة الاضطرابات الناجمة عن أسعار النفط.
– السعي الروسي لإيجاد حزام أو كتلة من الدول تقف في وجه القطبية الأحادية وتساهم في ممارسة المعارضة الروسية للسياسة الأمريكية الأحادية والمطالبة بعالم متعدد الأقطاب، والعمل على تقوية واحترام مبادئ القانون الدولي، وتظهر تعابير هذه المعارضة في رفض روسيا للغزو الأمريكي للعراق عام 2003 داعية إلى انسحاب قوات الاحتلال الأميركي من العراق والعودة لإطار الشرعية الدولية من خلال الأمم المتحدة، ومنح الشعب العراقي الحق في تقرير مصيره. وهو ما يفسر السعي لتوطيد علاقات موسكو مع الدول المناهضة للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة مثل: محور المقاومة الذي يضم إيران وسورية وحزب الله، والعراق.
– إعادة تأكيد الوجود النسبي الروسي في منطقة الشرق الأوسط، إذ ترى روسيا أنه إذ ما أرادت أن تحفظ مصالحها الحيوية في آسيا الوسط، فيجب أن تعمل على تطوير العلاقات مع إيران وسورية.
– تبني جزء من أهداف السياسات العربية في قضايا التحرير وتبني القضية الفلسطينية، وذلك في حدود الشرعية الدولية، وبما يضمن الحد من التأثيرات الأمريكية والأوروبية.
– تنشيط تجارة السلاح الروسية، حيث يعتبر الوطن العربي والشرق الأوسط سوقاً مهماً لمثل هذه التجارة والتي بدأ المجمع الصناعي الروسي في تحسن إنتاجه بعد حرب 2006.
يشكل العامل الجغرافي مصدراً هاماً من المصادر التي تدفع الدور الروسي في الشرق الأوسط إلى الأمام، فهنالك شكل من أشكال التواصل الذي يستهدفه أحد أهداف الحراك السياسي الروسي عبر التاريخ وصولاً إلى يومنا هذا، وأهم هذه الأهداف، الممرات المائية والوصول للمياه الدافئة، المعابر البرية وخطوط الغاز. ولذلك تسعى روسيا في العقود الثلاثة الأخيرة إلى إعادة بناء علاقاتها مع الشرق الأوسط من خلال توظيف كل من ثقلها السياسي والدبلوماسي العالمي، ووزنها في أسواق النفط والغاز العالمية، وشراكتها الجيواستراتيجية مع الصين، بالإضافة لتطور حقول صناعاتها العسكرية والتكنولوجية، لوضع حد للهيمنة الأمريكية، وإعادة تشكيل ميزان القوى العالمي، وهناك الكثير من الدول الصاعدة تؤيدها في هذا التوجه.
في المرحلة الأخيرة أو بعد أحداث ما سمي “بالربيع العربي” خشيت موسكو من الوقوع في فخ المرامي الغربية وبخاصة الأمريكية، وهو الهدف الذي اتضح من تبعات القرار 1973 عام 2010، وهو ما دفع مواقف موسكو لإطلاق مواقف أكثر حزماً وصلابة فيما يتعلق بالملف السوري، وذلك بسبب ارتباط ما يحصل في سورية بعدة مستويات أهمها مستوى النظام الدولي، حيث تعتبر روسيا الأزمة في سورية، بما تتضمنه من تدخلات وصراعات وأطراف متعددة، مزيجا من انعكاس الصراع الإقليمي والدولي بامتياز وهي تمثل اختبارا لمدى مصداقية روسيا أولاً للوقوف لجانب حلفائها واختبار في المقلب الآخر لمدى صلابة الدور الروسي دولياً في التصدي لمشروع المواجهة الذي يبدأ من سورية وينتقل بشكل ديناميكي لإيران وروسيا عبر التنظيمات الإرهابية والتي يسهل تحريكها على رقعة المواجهة مابين الحدود في حال نجاح المشروع الغربي، وما سيترتب عليه من تأكيد للهيمنة الأمريكية على النظام الدولي انطلاقاً من التحكم المركزي في الشرق الأوسط.