شقاوات صغيرة.. وسعادة أم
يتذكر أبي في إحدى جلساتنا التي نجتمع فيها عند انقطاع الكهرباء ذكريات عديدة ليرويها عن أحداث في طفولتنا، كالمرة الأولى التي مشينا فيها، والكلمة الأولى التي نطقناها، فأبي يقول بأنها كانت بابا، بينما أمي تصر على أن المفردة الأولى هي ماما، ويتجادلون دقائق عدة ثم ينسحب أبي من الحديث معلناً استسلامه معتبراً أن الحق لها في تلك المطالبة، فهي التي لطالما كانت موجودة في مجمل أحداث حياتنا لأنها تعتبرنا الجزء الأهم من حياتها وواحد من أهم إنجازاتها، ويسرد أبي عدداً من التفاصيل التي كانت تقوم بها أمي، فمثلاً في إحدى المرات من أيام الشتاء الشديدة عند عودتنا من المدرسة أنا وأخي مبللان بالماء لأن مياه السيل كانت قد وصلت إلى منتصف أرجلنا عند قطع الشارع فبقيت ملابسنا تعج بالماء طوال اليوم. لم تنم أمي يومها وهي تفكر بأنها قد قصرت وأن أطفالها بقوا طوال النهار في المدرسة يشعرون بالبرد، فاستيقظت أبكر من وقتها وساعدتنا على ارتداء ملابسنا وحضرت “السندويشة” وجهزت نفسها وخرجت معنا لتحملنا كل بدوره لنقطع الشارع وبقيت تفعل ذلك يومياً حتى تأكدت من انتهاء الشتاء وبأن الشمس ستجفف ملابس أطفالها وتنوّر طريقهم أينما ذهبوا.
في طفولتي لطالما كانت متعتنا أنا وإخوتي انتظار عودة أمي من العمل، لا لكي نستقبلها على الباب بحفاوة شوقاً لها فقط، بل انتظاراً حتى تضع حقيبتها لنبحث فيها عن بعض السكاكر و”الأكلات الطيبة” وهي التي لم ترجع يوماً دون أن تكون حقيبتها عامرة ببعض ما نشتهي ويرسم الابتسامة على وجوهنا، فتقف متفرجة على شجارنا أنا وإخوتي من منا حصل على النصيب الأكبر، أمي التي كانت عادلة في قسمتها، تنظر فرحة وقلبها مليء بالرضا إلى مدى قدرة هذا الفعل البسيط على رسم سعادة غامرة ليس لأطفالها فقط بل لها أيضاً، ابتسامة صغيرة منا وقول بعض الكلمات اللطيفة تعبيراً عن شكرنا وطبعاً في أغلب الأحيان ننساها لأننا ننشغل بالتهام تلك المأكولات الرائعة، كلها أشياء مؤثرة تمحي عناء ساعات في العمل، وتغسل عناء ساعات وأيام من العمل المتواصل في المنزل وأشياء أشياء كثيرة.
لم تكن عودة أمي الشيء الوحيد الذي ننتظره، إنما مغافلتها في بعض الأحيان بالبحث والنبش في خزانتها، فكنت أنا وأختي غالباً ما نتقاسم ملابسها التي تخفيها لمناسبة ما، ونتناوب على تجريب أحذيتها ذات الكعوب العالية ونتبادل مجوهراتها ونلعب أدواراً عدة في لعبة الحياة، وأحياناً أخرى نبدأ رحلة البحث عن الكنز المفقود والذي دوماً لا نعرف ما هو إلا أن اليقين موجود دائماً أنها تخبئ في خزانتها ما يستحق القيام بتلك المغامرة المحفوفة بالمخاطر، خوف انكشاف العملية وإمساكنا وحبسنا في غرفتنا عقاباً على انتهاك الخصوصية.
كبرنا وماتزال حقيبة أمي مغارة علي بابا تحتوي من الكنوز على الشيء الكثير، ودائماً ما ترضي آمالنا وتوقعاتنا على صغر ما نجده، كبرنا ولم تنته طلباتنا وأسئلتنا وإدراكنا المؤكد على أن طلبنا سيجد مبتغاه عند أمي، كبرنا وما تزال أحاديثي ناقصة إن لم تسمعها أمي، كبرنا وما تزال أجمل مشاجراتي هي مع أمي التي ما تزال تستمر في فرض رأيها عليّ كما لو أنني مازلت صغيرة وأنا بدوري أحاول التملص من هذا الحب الآسر.
يقول جبران خليل جبران: “كل البيوت مظلمة.. إلى أن تستيقظ الأم”، وأنا أقول: بيتنا مظلم إلى أن تستيقظ أمي.
عُلا أحمد