بين “ماك دونالدز” و”ماك دونال دوغلاس”.. ما مصير “الدبلوماسية القصوى”؟!
أحمد حسن
“وليام بيرنز” مدير وكالة الـ “سي آي إيه” الجديد، تحسّر عام 2019- في عهد “ترامب”- على الدبلوماسية الأمريكية باعتبارها تقبع في “غرفة العناية الفائقة”.
جو بايدن الذي دخل البيت الأبيض محمولاً على جناح الخلاص من إرث ترامب، ووعد بسياسات “الدبلوماسية القصوى”، لم يحتج إلا لنحو شهرين من بداية ولايته ليخرج هذه “الدبلوماسية” من العناية الفائقة و.. يلحدها في مثواها الأخير، وكفى الله العالم “شرّ” السلام والمفاوضات لصالح “خير” الحروب، العسكرية والاقتصادية، فبالحرب وحدها يحيا الأمريكان.
الرجل، وعلى شاشة تلفزيون “إيه بي سي” الأميركي، عاد ليقرأ من كتاب “ترامب”، فصل “الضغوط القصوى”، فوجّه سهام الاتهام بالقتل للرئيس الروسي وتوعّده “بدفع الثمن”، فيما نظيره الصيني “لا يملك أيّ حس ديموقراطي”، كما قال، وأيّد في المقابلة ذاتها صلافة وعجرفة وزير خارجيته خلال لقاء “شخصي”!! مع نظيره الصيني.. في “آلاسكا”!!. المكان ذاته يحمل رسائل مضمرة لا تخطئها عين روسية.
رئيس مجلس الدوما الروسي، فياتشيسلاف فولودين، وصف كلام بايدن بالـ”هستيريا”. هي “هستيريا” فعلاً لأن “الكاوبوي” الأمريكي يريد ببساطة إعادة التاريخ مع الروس- كما يقول مراقبون أمريكيون- “إلى ما قبل انهيار جدار برلين والاتحاد السوفياتي في مطلع التسعينات من القرن الماضي، ومع الصين إلى ما قبل إنشاء العلاقات الدبلوماسية بين البلدين في مطلع السبعينات”.
بمعنى ما، هذا شيء “طبيعي”، فالرجل نتاج تلك المرحلة وابنها. هناك تكونت تصوّراته وتوجّهاته وتعريفاته للصديق والعدو، وهناك في خضم الحرب، ولو كانت باردة، كانت واشنطن تكبر وتقوى وتتزعّم مستفيدة من وجود عدو/ بعبع يجمع الحلفاء حولها، وتحت مظلتها، يقدمون لها فروض الطاعة، والأهم، ثرواتهم ومقدّراتهم ومفاتيح بلادهم. وتلك سياسة يلتقي عليها الديمقراطي والجمهوري، “المجنون” ترامب، والسياسي المخضرم “بايدن”، ورائد تحرير العبيد “لينكولن”، والغبي “بوش الابن، فهم جميعاً أبناء “الطبقة الحاكمة الأميركية التي تَشكّلت في عصر الغزو الأوروبي للقارة، والذي ارتبط بإبادة السكّان الأصليين” كما قال “بوتين”…
بكلام آخر، هناك فقط نفهم كيف أن الرجل الذي عرفناه في السباق الانتخابي، هو غيره الذي يقبع اليوم على سدة البيت الأبيض. فالرجل الذي عّبر، في المقابلة إياها، عن نفسه “لأننا دائماً نرى مواصفاتنا في شخص آخر ونعتقد أنه مثلنا”، كما قال “بوتين”، يعبر أيضاً عن طبقة حاكمة لا تعرف سوى إبادة الآخر ونقطة على السطر.
إنه، إذاً، يحاول استعادة تلك المرحلة، لكن التاريخ لا يعيد نفسه ومع ذلك انتظروا “صفير” الأسلحة المعتادة: الإرهاب، العقوبات، تفجير الأوضاع في جوار روسيا ومحيط الصين الجيوسياسي، و..بوجه “كل من يقف في وجه الرغبة الأميركية بقطبية أحاديّة” لا يمكن استمرارها دون السيطرة الكاملة على السوق، وكيفية دوران “عجلة” هذا الأخير، اختصرها “توماس فريدمان” بالقول: “إن اليد الخفية للسوق لا تعمل من دون القبضة الخفية للبنتاغون. ماك دونالدز يزدهر أكثر مع ماك دونال دوغلاس مخترع مقاتلة أف 16”.
إذاً، عند “ماك دونالدز” – معنى لا مبنى – تقف حدود “الدبلوماسية القصوى” مع موسكو وبكين.
بهذا المعنى يصبح كلام بايدن مجموعة رسائل أغلبها للحلفاء في أوروبا والعالم ومفادها إعادة شد عصبهم لمواجهة القوى الدولية المنافسة. بعضه، المضمر، لروسيا أيضاً: ابتعدي عن الصين واقتربي منا، لدينا الحوافز المناسبة. ما يعني أننا سنتابع من اليوم فصاعداً عرضاً إعلامياً هائلاً، بعضه في وسائل الإعلام “العربية”!!، عن الـ”قيم” الليبرالية الدولية للديمقراطيات الغربية، عن حقوق الإنسان، عن الرسالة الأخلاقية للغرب، عن وعن.. ومغزاها النهائي: روسيا والصين خارج مسار الدبلوماسية القصوى.. من فيها إذاً؟؟!!، الجواب واضح: من هو مطلوب ابعاده عنهما فقط لا غير.
بالطبع لن تقف روسيا والصين مكتوفي الأيدي، وإذا كانت الأولى ستستخدم علاقاتها المتعددة ومصادر قوتها الجديدة “لتأمين شبكة تواصل إقليمية، تخفّف من عنف التصعيد الأميركي”، فإن الصين قالت علناً أنها تدعو واشنطن إلى “عدم الاستهانة بعزم بكين على حماية سيادتها ومصالحها”. زيارة لافروف لبكين اليوم صورة عما يحضّر للمواجهة.
رجل الدولة النمساوي “مترينخ” يقول: “لا تستطيع أن تصل على طاولة المفاوضات أبعد مما تستطيع أن تصل إليه مدافعك على الأرض”. حسناً المدافع الأمريكية أصبحت أقصر مدى وهناك من ينافسها جديّاً .. السلام هدنة بين حربين لا أكثر ولا أقل.