مجلة البعث الأسبوعية

السعادة.. هل “تنبع من الداخل” فعلاً أم هي جينات متوارثة؟

كثيراً ما نسمع عبارة “السعادة تنبع من الداخل” دون أن نصدقها، لكن أبحاث علم النفس كشفت أن العوامل الخارجية من ظروفٍ ومقتنياتٍ مادية وغيرها لا تمثل أكثر من 10% فقط من سعادة الإنسان، فيما تعتمد 90% من تلك المشاعر على العوامل الجينية المتوارثة في حمضنا النووي، بالإضافة لطريقة تفكيرنا وطبيعة رؤيتنا للأمور.

فكرة السعادة في أصلها غير المادي منبثقة من أحكام الفلاسفة القُدامى وهي موجودة في كل الديانات تقريباً، لكن الجديد أن خبراء العصر الحديث وعلماء النفس أقروا النظرية بعد أن اكتشفوا أنه بناءً على الجينات التي نمتلكها ونوعية رؤيتنا واستجاباتنا العقلية والعاطفية للعالم من حولنا، فإننا يمكننا بالفعل أن نخلق سعادتنا الخاصة.

 

لكن.. ما هي السعادة؟

وفقاً لدراسة بعنوان “السعي وراء السعادة: إجابات تجريبية للأسئلة الفلسفية” تم نشرها في مجلة aps العالمية لعلم النفس، السعادة هي أكثر من مجرد إمضاء نهار خفيف بمزاج جيد، ولكنها حالة من مشاعر الرفاه والرضا مصحوبة بإحساس عميق بالمعنى والقناعة.

ويرتبط مستوى الرضا عن الحياة عادةً بالعواطف الإيجابية بناءً على تجارب الماضي والحاضر والمستقبل المتوقع. ويمكن أن يؤثر الماضي على الرضا عن الحياة في المستقبل من خلال كيفية توقعه والنظر إليه في عقلك. على سبيل المثال، إذا كنت قد عانيت من صدمة في الماضي، فقد تعتقد أن مستقبلك لن يكون مرضياً لأنك تتخيل أسوأ السيناريوهات بناءً على تجربتك السابقة.

 

هل السعادة جينات متوارثة؟

وعن مدى تأثير الجينات المتوارثة في مستوى سعادة الأشخاص، تقول المعالجة النفسية الأمريكية سوزان زين إن الجينات تشكل ما يقدر بنحو 40% من القدرة على أن تكون سعيداً، لكن الأمر لا يعني أنه إذا لم تولد بجينات معينة فمن المقدر لك أن تكون تعيساً مدى حياتك، ولكن “من الممكن إعادة تركيب أدمغتنا بطريقة معينة لتحقيق هذا الشعور لأن الـ60% الأخرى من السعادة تنبع من نمط الحياة” على حد قولها.

الرابط بين الجينات ومستوى السعادة تم ربطه بشكل عملي في دراسة أشرفت عليها رئيسة الأبحاث في جامعة فريج الهولندية مايك بارتلز، في العام 2017، حيث جرى أخذ عينات من الحمض النووي لأكثر من ربع مليون شخص مع تحديد مستوى سعادة كل منهم، واتضح أنه بالنظر إلى الجينوم البشري الذي يحتوي على المادة الوراثية يمكن تحديد روابط بين نوعية الجينات المتوارثة لدى الشخص ونوعية مشاعره. وكان هناك ثلاثة متغيرات جينية للسعادة، اثنان يفسران الاختلافات في أعراض الاكتئاب، والأخير رُجّح أنه المسؤول عن درجات السلوك العصابي. وبمعرفة موقع الجينات الوراثية، قد يصبح بالإمكان قريباً تعديل التركيب الجيني للشخص. تقول بارتلز إنه “إذا كنت تعرف ما الذي يجب تغييره لتصبح أكثر سعادة، فلماذا لا يتأكد شخص ما في المستقبل من أنه يمتلك تلك الجينات؟”.

 

كيف تساهم رؤيتنا في تحقيقها؟

على الرغم من دور التركيبة الجينية في تسهيل اعتناق السعادة كأسلوب للحياة، هناك طرق يمكن من خلالها تعلم أن نكون أكثر سعادة ورضا، حتى في الأوقات الصعبة، مثل تطوير سمات هامة هي المحور في تحقيق ذلك الشعور كالمرونة والتقبُّل. وتقول الأخصائية النفسية سوزان زين: “إن الأمر لا يختلف عن عملية تحديد ما نرتديه خلال اليوم أو نوعية الطعام الذي سنقوم بطلبه في أحد المطاعم”.

وتشير إلى أن القدرة على الشعور بالسعادة تتطلب التدريب المستمر، وتبدأ من القيام بأشياء قليلة لزيادة الشعور بالرضا عن الحياة تدريجياً، عن طريق تمارين الشعور بالامتنان، والتطوع ومساعدة الآخرين، وتحقيق معنى وغاية كبرى للحياة والعمل من أجلها، بالإضافة للاحتكاك المستمر بالطبيعة والآخرين والانتماء للمجموعات الداعمة ذات الاهتمامات المشتركة.

وبالرغم من صعوبة أو حتى استحالة تحقيق الرضا بينما تكون الحياة المهنية أو العلاقات والحياة الاجتماعية في أزمة ما، إلا أنه في مقابل عدم القدرة باستمرار على تغيير الظروف، يمكن دوماً تغيير الطريقة التي نرى فيها تلك الأحداث. يقول الكاتب الأمريكي شون أكور، المتخصص في علم النفس الإيجابي ومؤلف كتاب “أفضلية السعادة”: “صحيح أن بعض الناس قد يكونون أكثر قابلية لأن يكونوا أكثر سعادة من غيرهم، لكنك يمكنك أن تعلِّم نفسك التفاؤل والسعادة مثلما تعلم نفسك لغة جديدة”. وفي مثال على ذلك، قال إن إنفاق الأموال على التجارب المعنوية كالسفر مثلاً حتى وإن كان بإمكانات غاية في البساطة، بدلاً من شراء الأشياء المادية كهاتف جديد، سيتم تحقيق مشاعر سعادة أكبر. واعتبر أن الإنفاق المعنوي من مشاركة للوقت والاهتمام والجهد مع الآخرين، لا يمكن مضاهاته بشيء في تحقيق مشاعر الرضا والإحساس بالمعنى، وهي المشاعر التي تساهم بدورها في زيادة الإمكانات الإبداعية للأشخاص وتحسين قدراتهم على حل المشكلات.

 

سعادة الانتماء للمجموعة

ولأن الإنسان كائن لا يعيش بدون الانتماء لمجموعات من الناس، فسعادته بطبيعة الحال ليست مشروعاً منفرداً، لأن رفاهيته- الجسدية والعقلية- تعتمد على روابطه بالآخرين. ووفقاً لتقرير السعادة العالمي الصادر عام 2017، يعد الكرم والدعم الاجتماعي من أقوى العوامل التي تحقق مشاعر الرفاهية.

وتظهر دراسة أجريت عام 2014 للمعهد الكندي للأبحاث المتقدمة أن أسعد الناس تربطهم علاقات وثيقة بالأصدقاء والعائلة؛ وكشفت أن الأشخاص الذين يتواصلون مع البشر الآخرين بشكل دوري، حتى الغرباء على متن المواصلات العامة أو في طوابير الانتظار، يبلغون عن حالات مزاجية أكثر سروراً عن غيرها، وهو النمط الذي يطلق عليه علماء السلوك “الوجبات الاجتماعية السريعة”.

وترتبط العلاقات القوية بالقدرة على اكتساب المرونة، وفقاً لدراسة أجرتها جامعة هارفارد على الأطفال السعداء، على الرغم من تعرضهم لأحداث مؤلمة خلال فترة طفولتهم المبكرة.

وبالبحث عن أسباب تأقلم بعض الأطفال على تجاربهم القاسية، بينما يحمل البعض الآخر ندوباً تدوم مدى الحياة حتى بعد فترات البلوغ والنضج، أشارت الأدلة إلى إجابة واحدة مشتركة لدى جميع الطلاب المتعافين من تجاربهم: كل طفل منهم كان ينتهي به الأمر بصحة جيدة لأنه امتلك واحدة على الأقل من العلاقات القوية والمستقرة مع شخص بالغ داعم له. بعبارة أخرى لا تأتي المرونة من الإرادة أو العزيمة فقط؛ ولكنها تأتي من العلاقات القوية. وبالإضافة إلى توفير الإحساس بالهوية والدعم، يساعدنا الانتماء إلى مجموعة أو مجتمع على الشعور بأننا جزء من شيء أكبر من أنفسنا.

 

كيف نبدأ في تطبيقها؟

ليس من المستغرب أن يكون الأشخاص الأكثر بذلاً للجهد في تحسين عاداتهم وتقنيات تفكيرهم هم الأكثر شعوراً بالرضا. وإذا ما تم السعي وراء المتعة المادية، فلا ينبغي أن يكون ذلك على حساب عيش حياة ذات معنى وهدف أكبر. مثلاً بممارسة التسامح والامتنان والكرم، نحقق إحساساً بالكفاءة والاستقلالية والتواصل ، وهي احتياجات الإنسان الأساسية للعيش بشكل سوي.

يقول أستاذ علم النفس بجامعة ميسوري الأمريكية كينون شيلدون: “يمكن للناس أن يخلقوا لأنفسهم تدفقاً ثابتاً من التجارب الإيجابية الممتعة والمُرضية من التواصل والارتقاء، وبالتالي تزيد إمكاناتهم في تحقيق الشعور بالرضا والسعادة”، لافتاً إلى أنه من المستحيل توقع مقدار السعادة التي ستحصل عليها من أي تغيير معين تقوم به في الحياة، لكنها فقط قناعات تستحق المحاولة لتحقيق الغاية الأكثر إلحاحاً على البشر منذ بداية الحياة.