بايدن والتغيير الناعم في الخليج
محمد نادر العمري
الخليج العربي ليس في أحسن أحواله، وهو يشهد حالةً من الحيرة والقلق منذ أن فتح الرئيس الأميركي جو بايدن ملف مقتل الصحفي جمال خاشقجي من جديد، وسمح بنشر تقرير الاستخبارات الأميركية الذي يؤكد موافقة ولي عهد النظام السعودي محمد بن سلمان على عملية القتل، ناهيك عن إعلان العقوبات بحق كل من ساهم فيها.
صحيح أن العقوبات لم تطل ابن سلمان مباشرة، غير أن وضعه في واجهة مشهد عملية القتل من جديد، يضع مملكة آل سعود في الزاوية خارج أطر العلاقة المرسومة منذ زمن بين البلدين، والتي تقوم على الحثّ والضغط من دون المساس مباشرة بالقيادات العليا.
وصحيح أيضاً أن الرياض كانت تتحضّر لهذه المرحلة، إلا أنها لم تتوقع أن يذهب الأميركي إلى توجيه الاتهام مباشرة إلى الحاكم الفعلي للمملكة، ما أعطى مؤشراً غير مريح للخليجيين بأن القادم ليس أفضل، وأن الملفات الحقوقية والسياسية مطروحة على طاولة الأميركيين، ليس انطلاقاً من دعم حقوق الإنسان بل من إطار التوظيف السياسي. فالدليل على هذا التوظيف واضح، من خلال مسارعة آل سعود للإفراج عن عدد من المعتقلين استباقاً، ولكن يبدو أن ذلك لم يكن كافياً، ما يطرح عدة أسئلة: علام تقايض واشنطن الخليج عموماً، والسعودية خصوصاً؟.. أي مقايضة توازي حجم مستقبل بن سلمان؟ -والذي قدّم نفسه للغرب بأنه شاب ويحمل أفكاراً اقتصادية واجتماعية أكثر انفتاحاً- ما هي الإشارات التي ترسلها؟ وأي تنازلات تريد؟ وكيف ينظر الخليج إلى ذلك؟.
يمكنُ استقراء المشهد من خلال بعد إقليمي ينطلق من ملفين رئيسيين، الأول يتمثل بالحرب الطاحنة على اليمن، والتي وعد بايدن بإنهاء الدعم الأميركي لها، وهي تعدّ المأزق السعودي الأكبر، ذلك أنها لم تحقق إنجازات عسكرية مهمة، والتفاوض مع جماعة “أنصار الله”، وفي المعادلة الحالية، يعني ذلك سيطرة الأخيرة على المشهد السياسي والعسكري اليمني.
أما الملف الثاني، فهو ملف التفاوض مع إيران، والذي يشكّل فيه الخليج والكيان الإسرائيلي جبهة ثنائية رافضة لعودة العمل بالاتفاق النووي، قد تضع العصي في دواليب التفاوض الأميركي الإيراني، ما يضع احتمال المحاولة الأميركية لتحييد الخليج بعين الاعتبار. باختصار، ما يراد هو التفاوض مع إيران من دون منغصات عبر تحجيم السعودية.
من جانب آخر، يقوم بايدن بمعاملة السعودية باعتبارها “منبوذة”، بسبب الانتهاكات المستمرة لحقوق الإنسان، كما وعد تماماً -في محاولة التمهيد لنفسه لانتخابات رئاسية ثانية- فهل هي رغبة أميركية برعاية تغيير ما في السعودية -الكبرى خليجياً- ما يعني تمدّد هذا التغيير إلى المحيط أيضاً؟ وهل هو التغيير الناعم؟ وما حجمه وشكله؟.
في الحقيقة، تشير إدارة بايدن بقوة إلى أنها تهدف إلى إعطاء الأولوية لاستعادة العلاقات القوية مع الحلفاء الأوروبيين، إضافة إلى التحول نحو آسيا، في محاولة لمواجهة الصين، كما ينقل عن هذه الإدارة أن هناك قناعة لديها بأن الاستدارة نحو الشرق وترك المنطقة لنفسها، كما فعل أوباما، أمر غير صحيح، وينقل عن بايدن قوله: “انظروا ماذا فعلوا!”، في إشارة إلى الخليجيين.
وبالتالي، فإنّ استهداف ابن سلمان يبدو رسالة أميركية، مفادها إما التغيير الناعم وإما التهميش والمزيد من الضغط. وعندما تأتي رسالة بهذه القوة إلى السّعودية، فإن أصداءها تصل إلى آذان الجيران في الخليج، وخصوصاً من يواجه منهم أزمة سياسية، لتكون جرس إنذار لبقية الدول بأن استمرار الاستبداد في شكله الحالي لم يعد ممكناً على الأقل من الناحية النظرية التي تتيح للإدارة الأمريكية الحالية استخدامها لتحقيق مصالحها وفرض رؤيتها، ما يثير تساؤلاً هو: هل تسعى إدارة بايدن إلى تغيير قد يطال ولاية العهد في السعودية أو إلى تغييرات جوهرية في الخليج؟.
في المعطيات الحالية في السعودية، يبدو ذلك صعباً، إذ جرى تهميش كل قيادات الجيل الأول، كما جرت إعادة هيكلة شكل السلطة بولاءات جديدة، ما يفسّر إحجام بايدن عن فرض عقوبات على بن سلمان، ولكن هذا لا يعني “اللا تغيير” عموماً، بل ربما انتهاج سياسة تعرف بـ”التغيير الآمن”، عبر ممارسة الضغوط القصوى من أجل إعطاء المزيد من الحقوق السياسية، وإجراء إصلاحات حقيقية على مستوى حقوق الإنسان، من دون المساس بجوهر الأنظمة، خاصة أنها ما زالت قادرة على تحقيق المصالح الأميركية في المنطقة، باستثناء أن تقدم أميركا على المغامرة بدعم انقلاب عسكري يقوده أحد قيادات الجيل الأول وخاصة محمد بن نايف، ولكن مثل هذا السلوك سيكون له نتائج عكسية، لذلك يمكن وصفه بالمغامرة، خاصة وأنه بعد إقصاء بن نايف تمكّن وريثه بن سلمان من كسب الولاءات الأمنية والعسكرية له.
الخليجُ في حالة ترقب وقد لا ينتظر كثيراً من الوقت، والانفتاح باتجاه الصين وروسيا قد يكون وارداً من قاعدة “مسك العصا” من المنتصف، ولكن لن يكون ناجحاً أيضاً، لأن النفوذ الأمريكي بكل أشكاله، العسكرية والسياسية والاقتصادية، مترسخٌ داخل هذه الأنظمة، وقد تشكّل مثل هذه المناورة، أي التقارب مع الصين وروسيا، دافعاً أكثر لإدارة بايدن نحو التغيير في الخليج، خاصة وأن الأمريكيين اعتادوا منذ نهايات الحرب العالمية الثانية أن يكون الخليج رقعة لضمان مصالحهم وبيدقاً لتنفيذ سياساتهم.