ماهر علاء الدين.. خشب بسنادا وأحجار رأس البسيط والخردة المرمية على أطراف هذا الزمن التعيس!!
“البعث الأسبوعية” ــ لينا أحمد نبيعة
فنان برتبة إنسان من الدرجة العالية الدهشة، فنان حقيقي رفد حركة النحت في سورية وأغناها بعطائه وإضافته وتميزه، مقدرته تجاوزت العادي والمألوف في ابتكار الأشياء والتأليف والتركيب ومزاوجة المواد والخامات، يملك مهارة فريدة متفردة في الأسلوب، واستثمار التراث والبيئة، والبساطة في طريقة استخدام الخامات، فالمعدن مطواع بين يديه، يتحكم به ويحمّله حركة وحيوية وتوترات مدهشة، حيث أثبت بروعة تشكيلاته أن الحديد مادة نبيلة، وفيها طاقات كبيرة للتعبير، وبطريقة ما يحاكي الحجر والرخام فيكونان ما تريد يمناه، ويتحولان إلى عمل جميل مطلق في الفضاء.
جميل البدايات
منذ حوالي الـ 45 سنة، أخذتني والدتي بيدها وذهبت بي إلى مركز الفنون التشكيلية باللاذقية، وجعلتني انتسب إليه، عام 1974، بقسم الرسم والنحت، وتخرجت منه عام 1976. من يومها، صار النحت هاجساً وشغفاً لازماني في حياتي، وقد ساعدني وجود ورشة نجارة عربية لوالدي، توافرت فيها أدوات النجارة البسيطة.. هذه كانت بداياتي الأولى بالنحت، حيث تأثرت بالفنان النحات سعيد مخلوف “شيخ النحاتين”، واستفدت كثيراً من تجربته الفنية لانتقل بعدها لزيارة المعارض الفنية لنحاتين مهمين على مستوى سورية، كما ساعدتني وسائل التواصل الاجتماعي في السنوات الأخيرة بإتاحة الفرصة لي للإطلاع على تجارب غنية ومهمة ومتنوعة لنحاتين عرب وعالميين، لكنني في هذه المرحلة من تجربتي الفنية أعتقد أنني أسير في خط خاص يميزني عن غيري.
الفن حالة خاصة وفردية
الفن بشكل عام حالة خاصة وفردية، وأنا كنحات أشتغل على أعمالي لأشبع رغبة داخلية، وحاجة ملحة لإخراج مكنونات نفسي؛ وحين تراودني فكرة منحوته ما، أبدأ العمل على تنفيذها فوراً دون أي تأجيل.. أنسى خلال العمل على المنحوتة كل ما حولي، أغرق في تفاصيلها حتى حدود الدهشة، وبلحظة أتوقف وأقرر أن العمل انتهى.
شاهد عيان على الهم الإنساني
أنا ابن هذا الواقع وهذه البيئة، كل وجه أقابله في أي مكان أذهب إليه هو مشروع منحوتة، تلك الوجوه التي تحمل البؤس والهم الإنساني هي هاجسي ومادتي المفضلة، أخلق أعمالي وأجد لها حيزاً في الزمان والمكان لتكون بمثابة شاهد على حياتي المعاصرة اليومية، فالنحت هو حرية مطلقة يجب ألا تحدها حدود، عالم مفتوح على احتمالات لامتناهية، يؤرخ، يمتع، ويغني البصر والبصيرة.
الخشب يناديني لأبعث الروح فيه
في العمل النحتي، الخامة لا تأتي بالمرتبة الأولى، إذ على النحات أن يكون قادراً على التعامل مع الخامات المتنوعة وبالوقت نفسه أن يكون قادراً على تطويعها لخدمة الفكرة والحالة الإبداعية؛ ولقد استخدمت خلال مسيرتي الفنية خامات متنوعة كان الخشب أقربها إلى نفسي، لأسباب عديدة من أهمها أنه كان متوافراً في بيئتي المحلية (اللاذقية – بسنادا)، كخشب الزيتون والتوت والجوز والكينا.. إلخ. كل قطعة خشب كانت تناديني لأبث فيها الروح والحياة، وكنت ألبي النداء بمنتهى الشغف والحب لأقدم معارضي الأربعة الأولى بمادة الخشب الحنون.
ولأن النحات لا يتوقف عند حدود الخامة بل يتجاوزها للبحث عن حلول تشكيلية جديدة تخدم فكرته وتظهر الحالة التعبيرية على أكمل وجه، قمت بإدخال خامة “المعدن” لتتمازج خامة الخشب مع الحديد في عمل نحتي مركب منهما، وتمتزج معهما مجموعة من المتناقضات: “الشر والخير”، “الحب والكراهية”، “البرد والدفء”، “القسوة واللين”، ليظهر الضد ضده ونقيضه؛ وأعتقد أن هذه الأعمال قد لاقت اهتماماً كبيراً حين عرضها، وتم اقتناء بعضها من قبل المؤسسات والأفراد من مختلف أنحاء العالم، لتأتي مرحلة جديدة استخدمت فيها “الخردة المعدنية”، تلك البقايا المنثورة من الحديد، هنا وهناك، عند ورشات الحدادة التي كنت أتردد عليها، ورأيت أن كل قطعة خردة مرمية تتحول لتعبر عن هم إنساني مرمي على أطراف الحياة.. إنه الزمن التعيس الذي عشناه ونعيشه، زمن الخردة!!
إغراء الحجر
زمن الحجر الأصم، الحجر الذي انتقلت للعمل عليه لأجعله ينطق، إنه إغراء الحجر الذي تناثر حولي في رأس البسيط، هذا الحجر المتنوع الأحجام والأشكال والألوان، حيث أختار منه ما يناسبني خلال تجوالي الصباحي على ذلك الشاطئ الساحر، لأحتفي بهذا الحجر فيتحول إلى منحوتة، بورترية، أو جسد بشري، أو أنثى، أعمال مصقولة بعناية وتشكيلات يخترقها الفراغ.
“للإزميل والمطرقة” رائحة الذكريات
اعتمد النحت سابقاً على أدوات بسيطة وبدائية “كالإزميل والمطرقة”، أما الآن، ومع تطور التكنولوجيا وأدواتها، توافرت الأدوات الكهربائية لجميع الخامات المستخدمة، ما أدى إلى توفير الوقت والجهد للنحاتين، وما جعل النحات قادراً على إنتاج عدد أكبر من الأعمال في وقت أقل؛ وفي هذا مكسب كبير لفن النحت بشكل عام، لكنني لا أنكر أنني في بعض الأحيان أشعر بالحنين لذاك الإزميل وتلك المطرقة بما يحملانه من رائحة ذكريات حميمة للمرحوم والدي.
تكامل بالفن والحياة والحب
هيام سلمان فنانة مهمة، وعندها رؤية بصرية خاصة وذائقة فنية عالية، هي ليست زوجة وحسب، هي الحبيبة والصديقة والناقدة الأولى لأعمالي، أستشيرها بعد انتهاء كل مرحلة من مراحل العمل، وأحياناً كثيرة ترى ما لا أراه، وتناقشني في تفاصيل قد أكون غافلاً عنها بسبب اندماجي الكلي بالعمل، وهذا أمر طبيعي، وقد يكون رأيها أحياناً بعيداً عما يجول في خاطري، فأقوم بتعديل الأجزاء بما يتوافق مع رؤيتي الشخصية.. أعتقد أن هناك تكاملاً بين تجربتي بالنحت وتجربة هيام بالتشكيل، ومشاركتنا معاً في معارضنا الثنائية قد رسخت هذا التكامل بشهادة كل من تابع تجربتنا الفنية.
للحرب فعلها التخريبي
قبل بدء الحرب على سورية، شاركت بمعارض وملتقيات نحتية عديدة في سورية وخارجها، كان آخرها ملتقى مورتسبورغ الدولي بألمانيا، عام 2009، ليلي ذلك،، في العام 2010، تأسيس جمعية “أرسم حلمي” الفنية، والتي أنا عضو مؤسس فيها، لتتوقف، في العام 2011، النشاطات الفنية وتغلق صالات العرض أبوابها بسبب الحرب على سورية. بقيت فترة من الزمن، كغيري من السوريين، مصدوماً لهول الأحداث التي عصفت بكل مدينة وحي وأسرة، توقفت تماماً عن العمل، لأعود منذ ثلاث سنوات بمشروع جديد يمزج الخامات الثلاث – الحجر والمعدن والخشب – بأعمال نحتية أحمّلها أفكاري ومشاعري وانفعالاتي الذاتية حول كل ما شهدته من أحداث دموية وظالمة خلال تلك السنوات استعداداً لإقامة معرض يضم حوالي مئة عمل نحتي، لكن للأسف جاءت جائحة كورونا لتغلق البلدان نوافذها وأبوابها ولتصبح المعارض إلكترونية.. شاركت في أحد معارضها مؤخراً في أوكرانيا، ولأن الفنان دائماً يبحث عن نوافذ لعرض أعماله، فقد كان مواقع التواصل الاجتماعي حلاً مؤقتاً لهذا التوقف، على أمل أن أستطيع قريباً إقامة معرضي، فهو قيد الاكتمال، فاللقاء المباشر والواقعي مع جمهور العمل الفني مختلف جداً عنه في العالم الافتراضي، كما أن النحت تحديداً تظلمه الصور حتى ولو كانت من جميع جهاته.
النحت السوري
منذ آلاف السنين ترك النحت السوري بصماته في العالم أجمع.. حضارتنا عمرها أكثر من عشرة آلاف عام، منحوتات الفنان السوري موجودة في كل متاحف العالم، والنحات السوري المعاصر وصلت أعماله إلى العالمية عن جدارة واستحقاق من خلال مجموعة كبيرة من الملتقيات النحتية؛ لكن مع هذه الحرب الطويلة، لا شك أن أول المتأثرين هو الفنان النحات المبدع الذي تأثر سلباً وبشكل كبير، خاصة مع توقف صالات العرض والانقطاعات المتكررة للكهرباء، بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار الكبير للمعدات والمواد الخام اللازمة والضرورية لعمل النحات؛ وحتى قطع الخشب، التي كنا نراها في كل مكان وبمتناول اليد، أصبحت نادرة، لأن الناس العاديين جمعوا كل قطعة صغيرة أو كبيرة وأحرقوها طلباً للدفء وسط صقيع هذا العالم، وجميعنا نأمل الانفراج على جميع الأصعدة، ونتمنى أن نشهد نهاية هذه الحرب اللعينة التي لم تبق سوى قليل من أمل نتمسك بحباله الرفيعة.
النحات ماهر علاء الدين
مواليد اللاذقية 1961، عضو اتحاد الفنانين التشكيلين في سورية، عضو مؤسس في جمعية أرسم حلمي الفنية. شارك في معظم المعارض الفنية الجماعية في سورية، من عام 1995 وحتى 2019. أقام العديد من المعارض الفردية والجماعية في سورية وخارجها، حائز على العديد من الجوائز الفنية والتقديرية، وأعماله مقتناة في العديد من الدول العربية والأجنبية، وشارك في أكثر من ملتقى نحتي محلي ودولي.