مطر.. مطر
د. نضال الصالح
تمطرُ.. بغزارةٍ تمطر كما لو أنّ الغيم كان حبيساً لوقتٍ طويل في السماء، وكما لو أنّ الرجل الذي يقف أمام باب القلعة كان، مثلَ صوفيّ عتيق، يتضرّع إلى السماء لكي تعيد للمدينة خصبها الذي كانت تباهي به قبل أن يدهمها الجراد من كلّ حدب وصوب. الرجل ينتظر، يفتح راحتيه على مطلقهما لتتدفق فيهما، فيه، ماء الحياة. يشدّ معطفه على جسده ليتقي زلزلة البرد التي كانت تعصف بروحه بينما عيناه تستغيثان باب القلعة ليهدل بالصوت الذي اعتاد منذ كان طفلاً يرمح بقامته الصغيرة على سفح القلعة وفي خندقها ويشاغب الأخاديد والتراب والحشائش في كليهما، السفح والخندق، ثمّ ما يكاد الباب يبدأ صريره الذي يعشق، حتى تحين منه التفاتة إلى امرأة تجاوره، ولم تكن قبل أن تبتهل عيناه للباب لكي يشرع ذراعيه له، امرأة بكامل فتنة الأنوثة الباذخة حتى لتكاد الأرض تميد تحت قدميها هوى، وجوى، وصبابات. ثم ما إنْ تستضيء عيناه بالضوء الذي شغله على غفلة من ابتهالات قلبه للباب، حتى تصهل في رأسه ألف حيرة وحيرة: من أيّ غيمة تختال بنفسها في السماء حطّت هذه المرأة على الأرض؟ أيّ شال من لون الفيروز هو هذا الذي يحيط بعنقها كما لو أنّه شلّال من التوق إلى الحياة؟ أيّ شامة تلك التي تضوّع سحرها في نهر عينيه وبحر روحه حتى يكاد ينسى نفسه فيُهرع إليها ليحتضنها بمطلق انتظاره الطويل للحياة؟ أيّ شَعر ذلك الذي يستريح على كتفيها كما كان يستريح إلى كفّي أمه وهما تمسحان على رأسه، فيطمئن إلى أنّ كوكب المستحيل قاب راحتيه بل أدنى؟ أيّ بياض باذخ ذلك الذي يغوي القدّيسين بالتبتّل إليه؟ أيّ قدّ.. أيّ لمى.. أيّ..
وبينما الرجل يلهج بالأمنيات لكي تعود طيور الأسئلة إلى أقفاصها، أو لعلّها تكفّ عن التحليق فوق رأسه وفيه، وبينما المرأة تزداد قرباً منه، كان غير صوت يتصادى بين شجر بازغ لتوّه من غابة روحه التي لم تكن عرفت الاخضرار كما هي الآن. صوتٌ أنْ يا سماءُ مطرٌ، مطر، وآخر أنْ يا قلعةُ مَن هي هذه المرأة التي لم تكن، وثالث أنْ يا مدينةُ كيف لامرأة أن تصير مدينةً، مدناً، مجرّة بتمامها من الفرح للقلب والحياة؟.
وما بين صوت وصوت كانت المرأة تزداد التصاقاً به، تُساقطُ بين كفّيه وذراعيه عناقيدَ من أحلام مشتهاة، وفي دمه دماً لا يعرف اليباس، ثم تميد به الأرض، ثمّ يعلو عنها، ثم يصير غيمة، ثم تصير الغيمة جوداً، ثمّ يصير الجود أشجاراً من الفستق الحلبيّ وهو، تحت ضوء المرأة، ينضو عن حبسه نداء الحياة للحياة.
يحكي الرجل، بل قلبه الذي كان يتلعثم بخفقٍ لم يعرف لمثل عصفه من قبلُ، أنّ المرأة آوته إلى قلبها، أغلقت روحها عليه، فتجلّى بشراً سويّاً، وأنّ باب القلعة فتح ذراعيه على آخر مدى لهما، ثمّ قال لهما: ادخلاها بسلام آمنين.