فرنسا في موازين القوى العالمية
ريا خوري
لم تتوقف فرنسا يوماً عن التلويح بقدراتها النووية، ومحاولة تأكيد سطوتها على دول الاتحاد الأوروبي ودول أخرى في العالم. فقد ذكر الرئيس الفرنسي الأسبق فرنسوا هولاند لأوّل مرّة بالتفصيل الشديد تركيبة الترسانة النووية الفرنسية وقوَّتها الطاغية، مؤكّداً خلال خطاباته المتكررة وتصريحاته المباشرة عن منظومة الردع وتحديداً ما صرح به يوم 19 شباط 2015 من القاعدة الجوية “ايستر” من أن فرنسا تملك 300 رأس نووي، مشيراً إلى أنّ فرنسا كقوة نووية تمتلك ثلاث دفعات من الصواريخ التي تحملها الغواصات النووية التي تجوب محيطات وبحار العالم، وأربعاً وخمسين ناقلة، وصواريخ أرض– جو متوسّطة المدى متطورة ومحسّنة، مشدّداً على ضرورة الصراحة والشفافية دون مواربة، لكن هذه الرغبة في الشفافية تتناقض بشكل واضح مع الجهود الملموسة لنزع السلاح.
لا تزال هناك مناطق رمادية غير واضحة المعالم، خاصةً وأن فرنسا تمتلك ثلاثمائة رأس نووي، وفقاً لـ هولاند، وهو رقم قريب جداً من الرقم الّذي قدّمه أيضاً الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي في 2008. وجميعنا يعرف أن فرنسا تملك ماضياً استعمارياً، فقد كانت تتقاسم مع بريطانيا استعمار معظم دول وشعوب العالم، من هنا اعتبرت فرنسا نفسها إحدى القوى المسيطرة في إطار التحالف الغربي، وعقب الحرب العالمية الثانية تراجعت الدولتان وانكمشتا مع تصاعد النفوذ السياسي للقطبين الجديدين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفييتي.
في نهاية القرن الماضي وعقب تفكك الاتحاد السوفييتي، تمكّنت الولايات المتحدة الأمريكية من الهيمنة على العالم كقطب أوحد على القرار الدولي، لكن اليوم نجد أن فرنسا قد تقدّمت لتعلن عن وجودها كقوة نووية وكقوة دولية، مستغلةً انكماش الولايات المتحدة الأمريكية وانشغالها بحلّ مشكلاتها المتفاقمة ومحاولة إعادة ترتيب بيتها الداخلي، الذي بدا وكأنه ينهار بشكلٍ تدريجي وخاصة بعد ما عانته جراء جائحة كوفيد 19 (كورونا)، كما قفزت فرنسا لتنصب نفسها دولة قائدة للاتحاد الأوروبي بعد خروج بريطانيا من الاتحاد لنجد أنَّ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يعلن صراحةً عن عقيدة فرنسا النووية الجديدة.
صحيح أن العقيدة النووية الفرنسية ذات أهمية، إلا أن العامل الحاسم هو الاقتصاد، شأنها شأن العديد من الدول الكثيرة التي تعاني من مشكلات متأصلة في بنيتها الداخلية، ومنها الأزمات المالية. ما يعني أنه رغم قدرتها على إنتاج وامتلاك الرؤوس النووية وأسلحة الدمار الشامل الكيميائية والجرثومية، وأنها دولة دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، لكنها غير قادرة على فرض إرادتها على الدول الأخرى، ولعلّ خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي كان رسالة واضحة بأن الوضع الأوروبي الاقتصادي بعيد جداً عما تحلم به فرنسا النووية.
إن الغرب يقف اليوم على أعتاب مرحلة عصيبة ومصيرية من تاريخه، وبقاؤه ككتلة واحدة هو أمر يعتمد بصورة أساسية على قدرته على تأمين مصادر بديلة لاقتصاده المتردي، وهو الحل الأمثل البديل عن استعراض فرنسا عضلاتها النووية.