الشخصية في الرواية..!
حسن حميد
ما يعيشه النقد الأدبي في المشاهد الثقافية العربية كلِّها ليس بخير، وإن كان بخير فإن فعاليته ضامرة أو محدودة إن لم تكن معدومة، وهذا يعود إلى أسباب كثيرة جداً، وبعضها صعب تجاوزه أو التغلّب عليه، ومن هذه الأسباب: ندرة الناقد المثقف صاحب العين النفوذ، كدت أقول إن ندرة الناقد العارف بمكنونات النص الأدبي وما يرمي إليه هي الخسارة واضحة المعالم التي نراها في المشاهد الثقافية العربية، ولعلّ أبدى نتائجها هي حال التسيّب والتفلّت التي تعيشها النصوص من أي ضابط معياري، ومن نتائجها أيضاً ظنّ أصحاب النصوص المنشورة والمطبوعة في الصحف والمجلات ووسائل التواصل الاجتماعي أو في كتب مستقلة، أنهم يكتبون إبداعاً لم يكتبه الأوائل، القدامى واللاحقون، ذلك لأنهم يلاقون تصفيقاً عالياً وضاجاً ممن يشبهونهم في الكتابة والدرجة والحضور، وهو التصفيق الذي وصفه بعض العارفين بالإبداع بـ(البهرجة الكاذبة)، لأن المعاني في هذه الكتابات بلا غنى، بلا قيمة، بلا دهشة.
إن النقد الأدبي الغائب اليوم عن أدواره، عدا ما يقدّمه بعض العارفين بالنقد وأهميته في بلاد المغرب العربي، وهو نقد تنظيري مترجم على الغالب الأعم، ترك أمور الكتابة الإبداعية في فوضى عجيبة وعطالة تشبه العطل الذي يصيب الإشارات الضوئية في ساحة عامة معقدة الاتجاهات والطرق، في هذه الحال تتداخل الأمور، ويتعالى الصراخ، مثلما تتعالى أصوات الأبواق بما فيها من أذيات موجعة.
أقول هذا، بعد أن قرأت كتاباً نقدياً عنوانه /الشخصية في الرواية/ وهو كتاب يخصّ الأدب الفرنسي، كتبته الباحثة لور هيلم، وقام بترجمته الأنيقة الدكتور غسان السيد أستاذ الأدب المقارن في جامعة دمشق، وهو كتاب صغير في حوالي 200 صفحة من الحجم الكبير، لكنه أشبه بالحرز الثمين لأنه ممتلئ بالأفكار الجميلة، والأسرار النقدية التي يرومها كل ناقد ومبدع، وليس هذان الأمران فقط، وإنما هو ممتلئ بالحسّ النقدي الرهيف الذي ينمّ عن ثقافة واسعة للكاتبة لور هيلم التي اطّلعت على المنجز الروائي الفرنسي والعالمي بكفاءة عالية، وعبر سيرورة زمنية تبدأ من منتصف القرن التاسع عشر، وحتى الألفية الثالثة من زمننا الراهن، فتقدم كل فكرة نقدية تخصّ الشخصية الروائية في زمنها بالشواهد التطبيقية، وقد بدت حريصة جداً على تتبع أنماط الشخصية الروائية خلال قرن كامل وأزيد، وقالت: لقد كانت الشخصية الروائية هي الحامل الرئيس المعادل للحدث للروايات أيام أميل زولا (1840- 1902) وبلزاك (1799- 1850)، وإن الروايات، في تلك الآونة، ما كان بمقدورها أن تظهر من دون شخصيات نمطية، ولكن منذ قرن وحتى اليوم، يحاول الروائيون أن يتخفّفوا من حضور الشخصية في الرواية، والابتعاد عن التنميط كمفهوم، والقول إن الرواية تظلّ روايةً وإن لم تكن شخصياتها فاقعة الحضور، لا بل إن كتّـاب الرواية الجدد، جيل آلان روب غرييه (1922- 2008) حاولوا إلغاء الشخصية من النص الروائي وليس تبهيت الشخصية فقط، لأن أموراً كثيرة بدت، في الحياة المعاصرة، أهم من الشخصية، ومنها الأشياء، والاحتياجات، وما يحيط بالشخصية، كأن نقول: الحلم أهم من الشخصية، والشيء أهم من الشخصية، وتلبية الرغبات أهم، والمكان، والزمان، والتفكير أهم من الشخصية.
الكتاب (الشخصية في الرواية) كتاب ماتع وجميل، ولا يشعر قارئه أنه كتاب مترجم لأن د. غسان السيد يسيطر على لغته وأسلوبه، فجعل اللغة سهلةً، والأسلوب مأنوساً، ويكاد الكتاب يكون مسرودية لأهم روايات القرنين التاسع عشر والعشرين، مسرودية للمصطلحات النقدية التي نسمع بها ونعرف معانيها لكننا لم نقف على تعريفات محدّدة لها. الكتاب ثقافة واسعة تمنح قارئه بهجة لا تمنحها، عادة، سوى الكتب الثقيلة في جمالها وغناها.
Hasanhamid55@yahoo.com