“تقاليد الفقراء”..قصص أرمنية حارّة
بقيت حركة الترجمة العربية للأدب عموماً، مشغولة بالآداب الغربية، حتى تعامت -تحت تأثير السطوة الثقافية الغربية على المنطقة العربية، وعقدة الغرب عند المثقفين العرب-وبشكل كبير عن العديد من الآداب العالمية الشهيرة، كالأدب الأرمني مثلاً، وهي وإن تصدّت لهذا الأدب في بعض ما جاءت عليه من ترجمة له، فإنها ذهبت نحو تكريس الثيمة الوحيدة التي شغلت بال هذه الترجمات، وهي ثيمة “مجازر الأرمن”، الأمر الذي فوت على القارئ العربي العديد من التجارب الأدبية المهمة للأرمن! بالتأكيد هناك اختراقات لهذا الرأي هنا أو هناك، إلا أنها –أي هذه الاختراقات- لم تحقق تراكماً يبنى عليه في صياغة رأي خاص بهذا الأدب، ولم يقدم للمكتبة العربية منه، ما يجعله مطلوباً من القراء، كحال غيره من الأدب، ومن المعروف أن ترجمة الأدب بمختلف أنواعه –شعر/قصة/رواية/ مسرح-تساهم في تطويره بما يعرف اصطلاحاً بـ: “التثاقف” أو “التلاقح الثقافي”، وذلك بما ينفعل عنه من تغيرات على عدة مستويات، وأهمها المستوى اللغوي، وبالتالي كل نتاج هذه اللغة ومنها الأدبي.
وفق هذه النظرة أو الرؤية –كما أتمنى- يجيء إصدار المجموعة القصصية “تقاليد الفقراء” عن الهيئة العامة السورية للكتاب، وهو كتاب قيّم للكاتب اللبناني الأرمني “بوغوص سنابيان” قامت بترجمته بلغة رشيقة، عملية، متزنة الدكتورة “نورا أريسيان”، التي اختارت سبع قصص للكاتب، قام بتأليفها في تواريخ مختلفة، منها ما يعود لثمانينيات القرن الماضي، ومنها ما قام بتأليفه في الألفية الثانية، وهذا التباعد الزمني في حرفة الكتابة، كان له أثره التطوري على “جوانيات” الكاتب، وعلى أدواته أيضاً، الأمر الذي ساهمت في تبيانه للقارئ بشكل صادق وبحرفية ومهنية المترجمة، بعيداً عن هواجس المترجم الأدبية، والتي يمكن لها أن تطغى على النص المترجم، وتُعمل فيه بوناً بين ما يصدر عنه من أفكار وإيحاءات ومعاني يريدها المؤلف، وبين ما يصل للقارئ من معان وأفكار ورموز، وهذه واحدة من مشاكل الترجمة الأدبية عموماً، وعديدة هي المذاهب النقدية التي تختلف عليها وتتفق.
الحكايات السبع، تتنوع أيضاً في مواضيعها، ففي القصة التي تحمل عنوان “موضوع الإنشاء الممزق” ينقل الكاتب عوالم مدهشة من خلال فكرة لا تقل إدهاشاً، معلم يطلب إلى التلاميذ أن يكتبوا موضوعاً تعبيرياً عن آبائهم، لتخرج المواضيع التي كتبها الطلاب، تنز من حروفها المآسي والبؤس وآثار الفقر المخيفة، والكاتب هنا ينقل ببراعة وبحياد-كما يريد أن يُظهر-حياة الأرمن الصعبة في الجغرافيات المتعددة التي يحيون بها ضمن مخيمات النزوح، يقول في القصة: “لم يكن هؤلاء الصغار الذين ولدوا وتربوا هناك، يملكون أوجه مقارنة، ولذلك كانوا غالباً ما يتقبلون الظروف السيئة المحيطة بهم بابتسامات، وهم يمشون ويلعبون تحت المطر، في الطين والغبار”، ينتقل “بوغوص” من هذا الوصف والنقل الهام لحال الناس، من معايشته الحقيقية لواقعهم، وخوضه في أدق التفاصيل التي يتكون منها ويحيا على تأرجح تناقضات مجتمعهم، لينقل أيضاً هذه الصورة ولكن من زاوية أخرى ومهمة لجهة رمزيتها ودلالتها، يقول: “ابتدائية نوربان هي مدرسة أنشئت في مخيم تيرو منذ ثلاثين سنة، تخرّج فيها أولياء بعض الطلاب، ولكن كما الأيام الماضية، كذلك في أيام المتخرجين الجدد، كان المطر يدخل مجدداً من فتحات الصفائح، ويدخل الغبار من فتحات الجدران ليجعل الصفوف لا تطاق”، الكاتب لا يكتب من بنات خياله كما يحدث عادة مع كُتّاب القصة القصيرة، فالقارئ يشعر من خلال نصه بأنه عاش تلك الحياة، اختبر تفاصيلها، وقعت عليه معاناتها، وهنا نلاحظ كيف يتخلى الكاتب عن كل الأفكار ذات المزاج الشخصي، وهو يعمل على تصوير ونقل ذلك العالم، وتقنياً يُعتبر هذا الأمر، من أهم العوامل التي تساهم في نجاح القصة القصيرة.
تقنياً يوظف الكاتب مفردات البيئة المحيطة، لتكون مداراً للحكايات التي يذهب من خلالها لتقديم عموميات الحياة وخصوصياتها لدى شعبه، دون أن تكون هذه البيئة مقحمة على النص، أو فجة في الحضور، ففي المجموعة القصصية الآنفة الذكر، تحضر العديد من مفردات البيئة اللبنانية في فترة الحرب اللبنانية الأهلية، والتي عاشها الكاتب بكل تفاصيلها، من تلك المفردات: سينما شهرزاد، منطقة البرج، فرن الشباك، تل الزعتر، الحرب الأهلية؛ تنقل هذه المفردات، مزاج حقبة عريضة من تاريخ الحرب الأهلية، التي عاش الأرمن اللبنانيون تفاصيلها المفزعة، وعانوا ما عانوه كغيرهم من الناس في ذلك البلد، وهنا تحضر الأصالة في المجموعة، لا كحالة منفصلة عن البناء القصصي، بل هي من طبيعة هذا البناء، ففي قصة “قوس قزح الأغنية” نقرأ ما يلي: “في أيامنا السوداء هذه، قال المسيحيون والمسلمون بصوت واحد، إن هذا البلد ليس لهم فقط، بل قالوا أنتم تنتمون إليه أيضا، وقد عشنا طيلة نصف قرن هنا كمواطنين متساويين، والآن أتت اللحظة التي سنتحمل فيها حصتنا من العذاب بشجاعة”.
“تقاليد الفقراء” مجموعة قصصية ممتعة، وملهمة، فيها مزيج من الأصوات الداخلية الواضحة المسار، شخصياتها مكتملة، حواراتها رشيقة، موضوعاتها شيقة، رغم الأسى الذي سيطل برأسه من تلك القصة أو تلك، فالأسى من نسيج حياة الأرمن خلال فترة شتاتهم، وهذا ما برع الكاتب بتصويره ونقله للقراء بأمانة لا شك فيها.
تمّام علي بركات