ولا عجَب
عبد الكريم النّاعم
أقول افتتاحاً “ولا عجَب”، مع كثير من إثارة زوابع الأسى، وفتْح أمداء التأسّف، وهبوب رياح الألم المتتابعة، والتي يبدو أنّها لن تتوقّف.. حين أذهب للنّوم أستمع لبعض الوقت إلى إذاعة دمشق، على موجة الإف إم – وللأسف فإنّها غائبة عن محافظة حمص معظم الوقت، وإلى متى؟ ثمّة مَن يسأل!! – لأنّني أصادف أحياناً ما يمكن أن يشدّني من برنامج جادّ مُتْقَن، أو لقاءات تتحدّث عن الزمن الجميل للغناء العربي، أو فقرة تاريخيّة تُلقي ضوء على ما لم نعرف، وهذا الكلام يكاد يكون تزكية لبعض البرامج في دورة الإذاعة الجديدة، كما أنّه شهادة لصالح القائلين أنّ التلفزيون لا يمكن أن يُلغي حاجتنا إلى الإذاعة، والكلام في هذا طويل، ولست بصدده.
ذكرتُ في كتابة سابقة أنّني كنتُ قديماً لا أغفو إلاّ على صوت المسجّلة، وبعد أن قطعتُ مسافات عمُريّة، بما حملتْه مشاعرها وإضافاتُها، أصبحتُ لا أنام إلاّ مع الصمت، لأنّني أستمع برهافة، وبما يُشبه التجسّس، إلى صوت الأعماق التي تبدو بغير نهاية، كذلك الأفق الأزرق الساّحر.
فتحتُ المذياع، وهو بمتناول يدي، واستلقيتُ استعداداً لسفَر النّوم، فوصل أذني صوتُ المذيع، وهو يتابع تقديمه لشاعر، وكان في تقديمه من الاهتمام، والبهرجة ما يغري بالمتابعة، وانتظرتُ أن أعرف مَن هو هذا الشاعر، وحين ذكر اسمه تبيّنت أنّه ليس من معارفي الشخصيّة، ولا القرائيّة، ولا عجب، فجيلنا لم يعد يستطيع متابعة ما يطفو على سطح تلك المياه، والتي يبدو أنّ التكاثر فيها هو تكاثر تفقيسي، في كلّ يومين يفقس شاعر/ شاعرة، ولكي لا يكون حكمي فيه ظلم انتظرت عسى أن أسمع بعض الشعر الجميل الذي قد ترافقني أصداؤه إلى عوالم النّوم، ولمّا سمعتُ اسم الشاعر لم أستطع معرفة أهو من سوريّة أم من غيرها، وبدأ الرجل يسرد بلغة سليمة فصيحة في زمن تراجعت فيه الفصاحة حتى عن صعود منابرها،.. سرد كيف أنّه حين داهمتْه رغبة الكتابة كتب أشياء نثريّة لم يرض عنها، فذهب لدراسة العروض، وتمكّن من ذلك، وبعدئذ بدأ بكتابة الشعر.. لفتَني أنّه تعلّم العروض، وأنا من القائلين أنّ الشعراء الحقيقيين يولدون وفي أعماقهم ما يجعلهم يميّزون إيقاعيّاً/ وزنيّاً بين ما هو مستقيم الوزن، وما هو معوجّ، واستقامة الوزن العروضي لو كانت ممَا يُتعلَّم لذهب كثيرون لذلك طلبا للذّة الإيقاع وقيمته النفسيّة والجماليّة والتعبيريّة، وحين قال له المذيع ما معناه “نحن والمستمعون بانتظار أن نسمع شيئاً من شعرك”، وارتفع صوت موسيقى حالمة رائعة، جذّابة، لاذّة، استبشرت خيراً، لكنّ شاعرنا الكريم حين بدأ يقرأ، بعد قراءته بيتين أو ثلاثة كُتبت على نمط شكل العمود، أسرعتُ أطفئ الصوت للخلاص من أثر الصدمة، فقد كان شاعراً بالغ التقليديّة، فوجنتا حبيبته تفاحتان!! وليس في شعره صورة مُبتكرة، ولا معنى جديد، ولا ماويّة، وعلى هذا فقِسْ.
هنا أريد التوقّف عند بعض النقاط:
– تُرى هل أُعطيتْ للثقافة في الدورة الجديدة مساحة مساوية لفهمنا لأهميّة الثقافة في حياتنا؟
– تُرى حين يُعهد لمذيع ببرنامج ما، أليس في الاعتبار أن يكون كفءَ ذلك الحمْل، وعياً وثقافة، ومقدرة، لكي يستطيع السباحة في ذلك المحيط الأزرق؟!
– إنّ اعتبار تعبئة زمن البرنامج بأيّ شيء هو حالة نكوصيّة في زمن نحن أحوج ما نكون فيه للاختراق، من حقّ ذلك المذيع وأمثاله أن يحصلوا على مكافآت عملهم، ولكنْ شريطة التّجويد، لا أن يكون العمل على طريقة “هات إيدك والْحقْني”، لأنّنا في هذا نساهم في التردّي في مواقع الثقافة، وهي الموقع الذي نقول عنه أنّه مركزيّ ومصيريّ للخروج ممّا نحن فيه، بما يحمله من نواتج، وبما يَعِدُ به من فتح آفاق في الظّلمة التي أحدقتْ.
– إنّ سوريّة مليئة بالشعراء الجيدين، وفي العاصمة كمّ عدديّ منهم، فلماذا لا نعمد إلى استضافة النّاضج، المتألّق الذي أثبت جدارته، ونسلّط مزيداً من الضوء على تجربته، وندفع له إنْ دعوناه واستضفناه مكافأة مجزية بدلاً من أن يصبح “خودْ الشيء منْ قريبو” هو المُتاح؟!!
في هذا السياق، نقول: إذا أردتم تقديم برامج أدبيّة ناجحة ومفيدة فعليكم بالأدباء، فهم أدرى بشعاب الأدب…
aaalnaem@gmail.com