بالمجّــــان
د. نضال الصالح
لعلّ الظاهرة عربية فحسب، بل لعلّها عربية بامتياز، لأنّ العرب، كما يبدو للمتابع، أكثر الشعوب ولعاً بها، وربّما عبادة لها، على الرغم من أنّ عمرها لم يتجاوز أكثر من عقدين، أي منذ بدأت ثورة الاتصالات تنفذ إلى المجتمعات العربية، وتفترسها، وتميط الأقنعة عن الخراب المطمور تحت الغبار الذي يستر ألف سوءة وسوءة في الواقع العربي.
وكما أن الظاهرة ليست وقفاً على شأن من شؤون هذا الواقع، فهي حاضرة في الإعلام كما هي في الثقافة، وفي السياسة كما هي في كليهما، وفي المجتمع كما هي في الثلاثة، وإلى الحدّ الذي تتجلّى معه بوصفها علامة فارقة من العلامات الدالّة على ما يبدو أنه شأن عربيّ، فإنّها بآن ليست خاصة بفئة عمرية، أو سويّة معرفية، أو وظيفة اجتماعية، لأنها تمتد لتطبع بخاتمها الزيف غير فئة، وغير سوية، وغير وظيفة.
أمّا الظاهرة فهي ما يتناسل في الواقع من حمّى النسب إلى صفة ليست في الموصوف، من هذا الأخير نفسه كما يتوهم أحياناً، ومن سواه من المرتزقة بإطلاق الصفات بالمجّان عليه أحياناً أخرى، ومن ذلك صفة الشاعر والقاص والروائي والمسرحي والتشكيلي والناقد.. والخبير الاستراتيجي، والمحلّل السياسي، وطبيب الأعشاب، والشيخ بمعانيه المختلفة، بما في ذلك ما تعنيه هذه الصفة في أعراف القبائل والعشائر.
قد يكون معلّلاً أن يتوهم أحد أنه شاعر أو قاصّ أو روائي أو ناقد، أو سوى ذلك من صفات تحيل على الأدب، وأخرى تحيل على الفنّ التشكيلي، وثالثة على السياسة، ورابعة.. ولكن ما ليس معللاً أن يحدث ذلك ممّن يفترض المرء فيهم أمانة القول، ولاسيما في الشأنين الإعلامي والثقافي اللذين يبدوان، منذ نحو عقدين، مثخنين بألف جرح وجرح من الزيف وتخمة الواقع بمنسوبين إلى صفات ما مِن آصرة واحدة تربطهم بها، بل ما مِن صلة نسب بينهم وبينها حتى من الدرجة العاشرة. وبسبب ذلك تزداد الثقافة العربية تردياً في قاع الإفك والباطل، ويزداد الإعلام العربي سقوطاً في حبائل اللغو والبهتان، وبسببه أيضاً تتجلّى الحقائق أشبه ما تكون بأيتام على مآدب لئام.
بالمجّان.. صفات وألقاب وشهادات يتمّ توزيعها كيفما اتفق، ومن دون أضعف شعور باقتراف إثم، بل آثام بحقّ الحقيقة، ومن دون أدنى وعي بأنّ فعلاً، أفعالاً كهذه، لا يقلّ سفهاً وفساداً عن أقبح سفه وفساد لأنّه يستهدف أكثر الصفات رفعةً ومقاماً في الوجود الإنسانيّ، أي صناعة الوعي.
بالمجّان.. صفاتٌ وألقاب وشهادات يزاحم بعضُها بعضَها الآخر، ولاسيما في مواقع التواصل الاجتماعي التي مكّنت شويعراً أو شعروراً من الزعم بوصفه شاعراً، ونويقداً أو مُنشئاً من التوهم بوصفه ناقداً، وعيياً عن الكلام بوصفه فصيحاً، ونكرة بوصفه معرفة، ومكتوباً له بوصفه كاتباً، ورعديداً بوصفه فارساً، وقزماً بوصفه فاتح الأندلس، تذكيراً وتأنيثاً، ومُفرداً ومثنّى وجمعاً، وليس افتراضاً فحسب، بل واقعاً أيضاً.
وبعد، وقبل، فهل الواقع الآن على بُعد خطوة من إكماله عقد القران على تلك اللازمة اللعوب في السوق:
اشترِ اثنين واحصل على الثالث مجاناً؟!.