عبد الرحمن مهنا يترجم المواضيع الإنسانية إلى لغة بصرية راقية
لم يدرس عبد الرحمن مهنا الفن بعد، ففي عام 1967 لمع اسمه في التشكيل السوري إثر فوزه بالجائزة الأولى على طلاب مركز الفنون التشكيلية، ولم يتجاوز المرحلة الإعدادية، ويشارك في المسابقة التي أقامتها للفنانين الشبان.
كانت لدى الفنان مهنا موهبة التصوير، وهذه الموهبة تجعله قادراً على تلمّس معالم الأشياء المحيطة به وانعكاسها بدقة متناهية على اللوحة. إنه وريث مجتهد لطموحات البيئة التي عاش فيها، وهو بفطرته يدرك تماماً أن العمل الفني هو تجاوز للواقع وخلق واقع جديد له صلة بذات الفنان وإحساسه، وقد انطلق ليصور البيوت ذات القباب الطينية والحقول الواسعة وقد نضجت سنابل القمح فيها بأسلوب انطباعي تظهر فيه اللمسة اللونية الجريئة والرؤية الفنية الواضحة.
رسم الأحياء القديمة في مدينة حلب ورسم مساجدها، وراح يتابع المعارض الفنية فيها، ثم توسعت مداركه الفنية، وشرع يفتح أمام عينيه أبواب التجديد والتجريب والبحث، ظهر كل ذلك في المعرض الفردي الأول الذي أقامه في صالة المتحف الوطني بحلب عام 1970، وقد ضمّ سلسلة من الأعمال الفنية تجسد الرؤيا التي تستوحي التكوين الأسطوري للمنحوتات السورية القديمة. ولعل هذا المعرض يسفر عن إدراك الفنان لربط المهمة التي يسعى الفنان لربطها بقضايا أمته، ويؤكد على أن العمل الفني ليس محاكاة للواقع بل وسيلة لتغيير هذا الواقع وتطويره.
تميّز المعرض الثاني للفنان بقدرته على تجاوز الأشكال المحكومة بقوانين الفنون الشرقية القديمة، وانطلقت الخطوط بحرية واضحة لتبني الأشكال بعفوية تنبع من مخيلته مباشرة دون الخضوع لقيود سابقة وهي تولد الأشكال الجديدة التي امتزجت فيها الملامح الإنسانية بغيرها، ولا تخلو من براعة الخط وحيوية التشكيل وتوقد المشاعر وسمو الخيال. إنه يلجأ إلى لغة هادئة تخاطب ضمير الإنسان، وتوقظ المشاعر النبيلة عنده، من خلال لغة لونية صافية يمتزج فيها الأزرق مع البرتقالي مع الأسود، إنه يحول اللون الهادئ إلى جمل لونية لا يعوزها الجمال والحسّ النظيف والبراعة التصويرية. ولم تقتصر تجربته على مادة التصوير الشمعي، بل وجد في البيوت الدمشقية القديمة مادة غنية لتجاربه، وقد وجد فيها أواصر خفية ومادة تعبيرية عن عشقه وقدراته المبدعة المتجدّدة. يأخذ من المشهد عناصره الشكلية ويعيد تركيبه برؤيته الخاصة، ويضفي عليها المشاعر المختلفة من خلال صيغ تشكيلية حديثة يحيط بها التحوير والتبسيط والبناء اللوني المحدث والمناخ الضوئي الذي يبرز اللوحة بلغة معاصرة تتضمن معارف تقنية جديدة مستفيداً من القيم التجريدية الحديثة.
في المعارض اللاحقة نجد أعمال عبد الرحمن تتميز بأسلوب خاص، ويظهر ذلك في تقديمه اللوحة، حيث تقوم خطوط تكاد تكون هندسية بالفصل بين المساحات اللونية وتثير الانطباع بتأليف وحدة متكاملة (أسرة- أزهار- بيوت- عصافير- أسماك) وغيرها. ويصح هنا أن نقول: إن لوحاته التي تمثل البيوت القديمة توحي بالانسجام والطمأنينة دون أن تفرط في العذوبة.
إن تجربة غنية كتجربة الفنان مهنا جديرة بالتقدير، فهي تشكل مسيرة جادة في الخلق والإبداع والبحث الدؤوب عن التصوير بكافة أدواته التي تكشف عن جهد صادق وموهبة أصيلة تشكل رافداً من روافد الحركة التشكيلية السورية، وهي تتصدر عدداً من التجارب التي قدمها جيل السبعينيات من القرن الماضي.
فيصل خرتش