الحروب السياسية تكثيف للحروب الاقتصادية
ريا خوري
على الرغم من انتهاء الحرب الباردة بين الاتحاد السوفييتي السابق والولايات المتحدة الأمريكية، لم تتوقف الحروب العسكرية الطاحنة في العالم، بل استمرّت في مناخات جديدة، وازدادت بؤر التوتر، وتصاعدت حدّة الصراعات والنزاعات العسكرية وتكاثرت حالاتها على نحو غير مسبوق منذ حلول القرن الواحد والعشرين الحالي.
غير أن ما بدا وكأنه نظير لتلك الحروب في الشدة والقسوة، بل أشد منها إيذاء وضرراً، في كثير من الأحيان، هي الحروب الاقتصادية والتجارية والحصارات والعقوبات التي يمكن أن تفرضها دولة على دولة، أو دولة على منظمة أو مؤسسة وبالعكس. هذه القضايا كبرت واتسع مداها، وتعاظمت أكثر من ذي قبل، وخاصة من قبل الولايات المتحدة، وتحديداً في السنوات الأخيرة، نتيجة إخفاقات مغامراتها العسكرية ودعمها الإرهاب وفشلها في تحقيق كامل أهدافها في النيل من الدول المستقلة، رغم الأثمان الباهظة المدفوعة من ورائها، مع الحصول على القليل من المغانم السياسية والدبلوماسية. من هنا يمكننا القول: إن كلفة الضغوط الاقتصادية والتجارية وسياسات الحصار والعقوبات الجزئية أو الكاملة أقل كلفة من إرسال الجيوش، والمعدات العسكرية الضخمة مثل الدبابات والعربات وآليات الدعم اللوجستي.
ولذلك ليس بمستغرب الافتراض بأن حروب الاقتصاد والعقوبات ستعتمد في السياسات الدولية، بخاصة تلك الدول التي تعتبر نفسها من دول العشرين الكبار، بديلاً من الحروب العسكرية المدمرة لمجرد أن فوائدها السياسية والدبلوماسية مجزية أكثر، رغم أن الدلائل والقرائن المادية تشهد على استمرار الحرب أسلوباً رئيسياً وضرورياً. ويكفينا أن نطالع الميزانيات العسكرية الهائلة للدول، وحجمها قياساً بغيرها من ميزانيات قطاعات اجتماعية وإنسانية أخرى لندرك ذلك. هذا دون أن نشير إلى ما للحروب من أدوار في تنشيط الدورة الاقتصادية وتغذيتها، وانتعاش الشركات الضخمة عابرة القوميات والقارات وإنعاش الصناعات العسكرية التي تبدأ ببيع الأسلحة للدول المتناحرة، وإلى الضغوط التي تفرضها المؤسسات العسكرية والكارتيلات الكبرى ومجمعات الصناعات الحربية على مراكز القرار في الدول، خاصة في الدول الكبرى ذات الاستراتيجيات فوق-القومية، والتي تفرض أخذ مصالحها في حسبان تلك الدول مثل الولايات المتحدة الأمريكية.
ومع ذلك، سلاح العقوبات الاقتصادية هو سلاح قاتل للبلدان والمجتمعات التي يقع عليها، وهو، في الغالب، أقسى وأصعب لأنه لا يستثني فئة من المجتمع ولا منطقة أو مدينة من البلد الذي يتعرض له، وخاصة حين تشتد إجراءات العقوبات الاقتصادية فتصير حصاراً مطبقاً شاملاً على جميع السكان دون استثناء. وقد شهدنا أصعب وأخطر حالة حصار عانى منها شعبنا العربي في العراق الذي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية ومعها الدول الأوروبية وبعض الدول الإقليمية، الذي استمر لمدى ثلاثة عشر عاماً، فقضى على مليون ونصف المليون طفل، وأنهك البلاد وأضعف مناعته وقدرة جيشه على حماية الوطن. وقد لا يشبه الحصار هذا في القسوة سوى ذاك الحصار الذي فرض على كوبا لما يزيد على نصف قرن، والحصار الجائر الذي يفرض على سورية وقطاع غزة.
سلاح الحصار والتجويع والعقوبات الجائرة تفرضه دول كبرى، دولياً أو إقليمياً، على دول وشعوب أصغر وأضعف لفرض شروطها السياسية عليها. وأثمان هذا الحصار وتلك العقوبات تكون، غالباً، أثقل وأصعب من ثمن الحرب الاقتصادية. إذا كانت الأخيرة تسعى إلى إلحاق الضرر والخراب بمصالح الدولة التي تقع عليها الحرب الاقتصادية والتجارية وأسواقها الاستهلاكية وبورصاتها، فإن سياسات العقوبات والحصار تقود إلى الشلل الاقتصادي الشامل في البلاد مع ما يولده ذلك من أزمات اجتماعية وإنسانية وأخلاقية وصحية، وإلى التجويع والفاقة والعقاب القاسي الموجع لمجموع فئات الشعب.