جان جاك روسو يتخلّى عن أطفاله الخمسة لدور الأيتام
أوس أحمد أسعد
ثمّة فيلم سينمائي منتَج، بعنوان “المنهج الخطر” يتطرّق إلى سلوكيّات ّعالم النفس المعروف “كارل غوستاف يونغ” وحياته الشّخصيّة وأسلوبه في التّحليل النفسي، وعلاقته بمؤسس علم النفس “فرويد”. المهمّ في الفيلم، هو إضاءتُهُ على جانب مجهول، مسكوت عنه، في شخصيّة المشاهير والرموز المكرّسة في الذّاكرة الثقافيّة والعلميّة، حيث نرى العالم الوقور المسلّح بشرف المهنة، يحيد عن الأخلاقيّات الإنسانيّة المتّبعة، ويضرب عرض الحائط بالسلوك الحياديّ الموضوعيّ للطبيب النفساني ورجل العلم الرّصين، ويقيم علاقة عاطفية مع إحدى مريضاته، ثمّ يتخلّى عنها بصفاقة، حفاظاً على صورته الاجتماعية والزّوجيّة. الأنكى من ذلك أنّ الفيلم يُظهر عالم النفس مرتاح البال، لا يشعر بأيّ حرج من فعلته هذه، لدرجة أنّه كرّرها مع مريضة أخرى. هنا سينقسم مشاهدو الفيلم باعتقادي، إلى فريقين: الأوّل يجرّم الفعل وينفي الموضوعيّة عن كتب ومؤلّفات “يونغ” ويعتبرها غير ذات ثقة، على الأقل بالمستوى الأخلاقي. وفريق يرى بأنّه إنسان له نزواته كبقيّة البشر، يُخطئ ويصيب كغيره. ولا علاقة لنتاجه الفكري بذلك.
هذا بدوره سيقودُنا إلى السؤال حول كيفيّة تقبّل القارئ لفكرة وجود مفكّر ما أو فيلسوف أو أديب أو فنّان، يدعو إلى العدالة والمساواة بين الناس، ولتطوير الفكر الإنساني وتخليص البشرية من المساوئ والعيوب، وبنفس الوقت يعيش على موائد الأثرياء وهباتهم. أو أن يكون شاذّاً، مثلاً. أولا يتقبّل وجود أطفاله في حياته، فيلقي بهم في دور الأيتام، بحجّة أنّه غير قادر على تحمّل مسؤوليّته كأب!. هدفنا هنا، أن نركّز على هذه المسألة، لا انحيازاً لطرف دون الآخر، بل لنضيء وجهتيّ نظر مختلفتين قد تثيران سجالاً ما، نحن بأمسّ الحاجة له في ظلّ تسطّح الذهنيّات، وأن نزيل القدسيّة، عن شخصيات تاريخيّة كثيرة وضعتها الذاكرة الجمعيّة بعيداً عن التناول النّقدي، وصولاً إلى النّتيجة التي تقول: بأن ثمّة مجتمعات وكائنات أخرى تفكّر بشكل آخر، وتمتلك ثقافة لا تتشابه بالضرورة مع ثقافتنا، ثمّ هل هناك شخص معصوم عن الخطأ؟ وهل من أفكار تصلح لكلّ زمان ومكان؟. فالإنسان الحقيقي هو كائن الخطأ، لأنه يفعل ويتجاوز نفسه باستمرار، ومن يفعل ويفكّر سيخطئ بالضّرورة. يقول الفيلسوف الألماني “مارتن هايدجر”: (من يفكّر بشكلٍ عظيم، يخطئ بشكلٍ عظيم). كما صرّح “سقراط” معلم “أفلاطون” يوماً بقوله: إنّ الحياة غير المختبرة فكريّاً لا تستحق أن تُعاش، ليمضي أيّامه تائهاً في شوارع أثينا يحرّض الناس، ويحثّهم على تغيير حياتهم نحو الأفضل. لكنّ المجتمع الأثيني بقواه المختلفة السياسية والدينيّة التي وجدت فيه خطراً فكرياً على مصالحها، سئمه وصوّت على قتله.
ما لقيه سقراط من مصير درامي، جعل تلميذه، أفلاطون، يعيد حساباته ويتوجّه نحو العمل الأكاديمي، عازماً على التخلّي عن السياسة وتأسيس جمهوريته المثالية “مسلّماً قيادها إلى الفلاسفة، لأنّهم وحدَهَم جديرون بالسّلطة برأيه، وذلك بسبب قدرتهم على قمع الشهوات والشغف المنحطّ وإدراك الجيّد والحقيقي. اللّورد الشاعر “بايرون” كانت شهرته ستكون قليلة الانتشار لو بقي تقليديّاً، يعيش في قفص الزّوجيّة بسعادة، بدلاً من حياة التشرّد وتعدّديّة العلاقات النسائيّة. بينما نرى موسيقي كبير آخر، هو “فاغنر” يلجأ دون أي إحساسٍ بالخطأ، لأسلوب إغراء زوجات أصدقائه وزوجات المحسنين إليه، رغم سمعته ومكانته الفنيّة العالية التي وضعته في مصافي أعظم عباقرة الموسيقا في العالم، برأي المختصين.
وهناك آخرون قد يكونون أكثر شهرة، جذبتهم المغريات والسلطة والسلوكيّات المنحرفة، كالفيلسوف “هايدجر” الذي ترك صومعته الفكرية ليصبح داعية سيء السمعة للنّظام النّازي، وقد جعله حماسه للاستبداد، في موقف سيّء حتى مع النّازيين أنفسهم، الذين كانوا يرغبون بالوسطيّين المذعنين وليس بالعباقرة المتعالين والغريبي الأطوار. حتى أنّه لم يعترف بعد عقود من سقوط النّازيّة بخطئه، وكذلك الفيلسوف “سارتر” المفكّر الوجودي الكبير الذي ظلّ لسنوات عدّة مدافعاً عن الشيوعية السوفياتية، حتى بعد اكتشاف وجود معسكرات اعتقال سيئة السمعة. أمّا المفكّر الرياضي الشهير “برتراند رسل” فلم تكن حياته الزوجية مثاليّة بعد ثلاث حالات طلاق قاسية، تركت ندوباً عائلية كثيرة وعائلات مفكّكة وأثّرت في حياة أحفاده بشكل كارثيّ جدّاً. وقد لقّب “بالخليع الفلسفي، وبيرتي القذر” صحيح أنّ موقفه المناهض للحرب الذّريّة كان معروفاً، إلّا أنّ الكثيرين لا يعرفون، بأنّه كان محرضاً على الحرب الاستباقيّة النوويّة ضدّ الاتحاد السوفياتي في أربعينيات القرن العشرين. في الوقت الذي لم يكن فيه الاتحاد السوفياتي يملك قنابل نووية.
كما اتّهِمَ الفيلسوف الإشكالي الشّهير، نيتشه، بأنّه كان عرّاب الفاشيّة والنّازيّة، والمفكّر الاجتماعي والأديب جان جاك روسو الذي وعظ بالأهميّة الحيويّة للتربية الصالحة للأطفال، والأبوّة والأمومة الجيدة، تخلّى بقسوة عن أطفاله الخمسة لدار الأيتام، حيث مات معظمهم بسرعة، مبرّراً ذلك، بالقول: “نتج عن تلك اللقاءات الغرامية خمسة أطفال، تمّ وضعهم جميعاً في مستشفى اللّقطاء دون أن أفكّر فيهم لاحقاً، حتّى أننّي لم أحتفظ بسجلات تواريخ ميلادهم”، مدّعياً بأنّهم سيكونون بحالة أفضل في مكان آخر. والغريب أنّه رفض مثل هذا العرض الأفضل، الذي تقدّمت فيه دوقة لوكسمبورغ وغيرها، وأعلن بارتيابه المرضيِّ نفسِه: “بأنّه متأكّد من أنّ هؤلاء الأطفال، كانوا سيكبرون على كراهيّة والديهما، وربّما خيانتهما”. ياللعجب!.