بايدن يتناغم مع مؤسسات الدولة العميقة في أفغانستان.. وهذا هو السبب!
محمد نادر العمري
من أكثر ميزات حقبة الإدارة الأميركية السابقة أنها كانت توصف بحقبة التباينات المتعدّدة في المواقف، ولاسيما بين ما كان يريده ويصرّح به الرئيس السابق دونالد ترامب، وبين ما كانت عليه سياسات وتوجّهات مؤسسات الدولة العميقة، وبصورة خاصة البنتاغون وأجهزة المخابرات. وقد ظهر ذلك جلياً في سياسة ترامب تجاه كوريا الديمقراطية، ومسألة الوجود العسكري الأميركي في أفغانستان وسورية، إضافة للخلاف الذي كان دائراً بين ترامب والمؤسّسات الأمنية والعسكرية في تقييم دور روسيا بانتخابات العام 2016، وبعد اتهامها بالخرق الإلكتروني 2020.
إدارة الرئيس الديمقراطي جو بايدن الحالية هي في موقف معاكس تماماً لما كانت عليه إدارة ترامب في العلاقة مع مؤسسات الدولة الأميركية المعنية بالسياسة الخارجية والتي تشمل أيضاً وزارة الخارجية، بل يمكن القول إن الإدارة الحالية هي إدارة هذه المؤسّسات وتتناغم معها، فيما ستضعه من إستراتيجيات مشتركة بمرونة ودون حصول تصدعات أو ضغوط متبادلة بينها وبين ساكن البيت الأبيض.
ولعلّ ما أشارت إليه صحيفة “واشنطن بوست” بتاريخ 13/3/2021 من إمكانية تأجيل موعد انسحاب القوات الأميركية من أفغانستان لمدة عام، هو خير دليل على هذا التناغم المشترك في المواقف والأهداف، على عكس إدارة ترامب السابقة التي كانت تضغط على وزارة الدفاع “البنتاغون” لتحقيق الانسحاب الأميركي من أفغانستان قبل السنة الانتخابية في العام الماضي، حتى وصل الأمر حينها إلى حدّ دعوة ترامب لقادة “طالبان” للمجيء لكامب ديفيد من أجل توقيع اتفاق سلام، لكن ذلك لم يحصل بسبب الضغوطات الكبيرة من الكونغرس والمؤسّسات الأمنية والعسكرية أو ما يعرف بمؤسسات “الدولة العميقة”، وجرى الاستعاضة عن ذلك بتوقيع اتفاق في الدوحة منذ سنة تقريباً، تضمن جدولاً زمنياً لانسحاب قوات الحلف الأطلسي “الناتو” ابتداءً من شهر أيار في هذا العام، وهو ما لم يتمّ التقيّد به حتى الآن، بل شكّل سبباً في امتعاض بعض أعضاء الحلف من ذلك، حيث تعتبر وزارة الدفاع الأميركية أن الظروف والمناخات الأمنية والسياسية الحالية في أفغانستان ومحيطها الإقليمي لا تسمح بانسحاب قوات “الناتو”، بذريعة أن “طالبان” مازالت تقوم بعمليات عسكرية وتفجيرات أمنية في أماكن مختلفة، ولا تقبل عملياً بالشراكة في السلطة مع الحكومة الحالية وتحصل على تأييد ودعم خارجي، ويتهم “البنتاغون” حركة “طالبان” بأنها ما زالت تتعاون مع جماعات “القاعدة”، ويعتقد البعض أنه إضافة للتوافق الداخلي الأمريكي الحالي بين البيت الأبيض ومؤسسات الدولة العميقة، إلا أن هناك أهدافاً أخرى، أبرزها وجود قواعد عسكرية أمريكية وأطلسية متقدمة بالقرب من الصين، وعدم تكرار تجربة الانسحاب الأميركي من فيتنام في حقبة السبعينات، حيث انتهى الأمر هناك بعد خروج الأميركيين بسيطرة الشيوعيين على عموم فيتنام، وهو اعتقاد يحمل وجهين: خشية أمريكية من توسّع النفوذ الصيني عبر التأثير غير المباشر لطريق “الحزام والحرير”، أو توسع الدورين الروسي والإيراني في آسيا الوسطى.
وقد كشف استطلاع رأي أجرته مؤخراً وكالة أنباء “باجهوك” الأفغانية عن سيطرة “حركة طالبان” على 52% من البلاد، مشيرةً إلى أن 59% من السكان يعيشون في مناطق سيطرة الحركة، وأظهر الاستطلاع الذي جرى بين 30 كانون الأول 2020 و3 شباط 2021، أن الحكومة تسيطر على 46% فقط من الأراضي الأفغانية، وأن 2% المتبقية تخضع لسيطرة أطراف أخرى، وأشار الاستطلاع إلى أن المناطق الواقعة تحت سيطرة “طالبان” تبلغ مساحتها 337 ألف كيلومتر مربع، في حين تبلغ مساحة المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة 297 ألف كيلومتر مربع.
لقد كان الاتفاق الذي وقّعته إدارة ترامب مع “طالبان” مفصلاً مهماً في سياق الحرب الأميركية في أفغانستان التي بدأت قبل 20 سنة، وهي أطول حرب تخوضها الولايات المتحدة في تاريخها، فما تضمنه الاتفاق يعني قبولاً أميركياً بتسليم السلطة مستقبلاً لحركة “طالبان” وبسحب “قوات الناتو” من أفغانستان خلال 18 شهراً، مقابل تعهد “طالبان” بعدم السماح لأنشطة “القاعدة وداعش” في أفغانستان، وأيضاً عدم السماح للمسلحين الانفصاليين “البلوش” الناشطين في جنوب غرب أفغانستان، باستخدام هذه المنطقة كمنطلق لهم في عملياتهم ضد باكستان المجاورة.
ولوحظ في المفاوضات السابقة عدم مشاركة حكومة الرئيس الأفغاني أشرف غني الذي عبّر عدة مرات في السابق عن امتعاضه من الموقف الأميركي، بسبب إجراء المفاوضات في ظل غياب التنسيق مع حكومته، خاصةً وأن “طالبان” لا تعترف حتى الآن بكل الوضع الدستوري والسياسي الذي جرى في أفغانستان بعد الغزو الأميركي.
لقد فشلت الولايات المتحدة في إنهاء حركة “طالبان” بعد إسقاط حكمها في نهاية عام 2001، ولم تنجح المراهنة الأميركية على إقامة ماعرف “بحكم بديل” يستقطب الأفغانيين ويعزل الحركة، رغم كل المحاولات والخسائر البشرية والمالية في حرب أفغانستان على مدار عقدين من الزمن، وكانت المبررات الأميركية في السنوات الأولى للحرب هي القضاء على حركة “طالبان” التي كانت تدعم بن لادن والقاعدة، ووفرت لهما ملاذاً آمناً قبل أيلول 2001 وبعدها، لكن ما هو مهمّ للإستراتيجية الأميركية الآن يرتبط بأهمية الموقع الجغرافي لأفغانستان وجوارها لإيران ولباكستان الدولة النووية ولجمهوريات من الاتحاد السوفييتي السابق، وبقربها من الصين، ولما فيها أيضاً من ثروات طبيعية.
إن تداعيات حرب أفغانستان جعلتها تشبه إلى حدّ كبير الحرب الأميركية على فيتنام في القرن الماضي، والتي سبّبت خسائر كبيرة للولايات المتحدة، وانتهت بمفاوضات في باريس أدّت إلى الانسحاب الأميركي وتسليم الحكم إلى من كانوا يحاربون أميركا من ثوار فيتنام الشمالية المعروفين باسم “الفيتكونغ” وإلى التخلي عن حكومة فيتنام الجنوبية المدعومة من واشنطن.
وحرب أفغانستان هي الحرب الثانية، بعد العراق، التي “تخسرها” الولايات المتحدة في هذا القرن الجديد عسكرياً، لكن دون أن يؤثر ذلك على القوة العسكرية الأميركية المنتشرة في العالم، وعلى تفوقها النوعي والكمي على أي دولة أخرى حتى يومنا. فما زالت الميزانية العسكرية الأميركية هي الأضخم بنسب كبيرة مقارنة مع ميزانيات الدفاع لدى القوى الكبرى الأخرى، حيث تبلغ الميزانية العسكرية الأميركية 10 أضعاف الميزانية الروسية ونحو أربعة أضعاف الميزانية الصينية، ولم تكن خسارة أميركا في فيتنام مبرراً لخفض الإنفاق الأميركي على المؤسّسة العسكرية أو سبباً لانسحاب أميركا من الأزمات العالمية أو لعدم خوض حروب جديدة، ومن هنا يمكن فهم تأجيل الانسحاب من أفغانستان وتعزيز الانتشار العسكري الأميركي في آسيا.
صحيح أن الولايات المتحدة قد فشلت في تحقيق الكثير من أهدافها ومشاريعها في حروب وصراعات مختلفة حدثت في الماضي، وصحيح أيضاً أن هناك سعياً روسياً وصينياً دؤوباً لتكريس نظام متعدّد الأقطاب في العالم، وصحيح كذلك أن عدة دول في قارات العالم تحبّذ الآن حصول تعدّدية قطبية، لكن ساكن البيت الأبيض وصقور إدارته هم اليوم يمثلون ويشكلون امتداداً لمؤسسات الدولة العميقة التي لن تتوانى في استخدام أي وسيلة وأسلوب للحفاظ على مصالحها في الخارج، وهذا يتطلّب منها السعي للحفاظ على التفوق الأمريكي والتمسّك بزعامة الهرم الدولي.