مِصباح
عبد الكريم النّاعم
دخل صديقي، وفوْر جلوسه شكى من برْد الأيام الأخيرة من آذار، ومن أنّه يُشبه برْد أربعينيّة الشتاء، والنّاس جميعاً، عدا قلّة ما تكاد تبين في التعداد العام، جميعاً لم يكن لديهم ما يتدفؤون به إلاّ الثياب السّميكة، وربّك أعلم كم ستمتدّ آنات هذا العذاب.
قلت: “معك حقّ، فأنا وأنت نشكو وليس لدينا أبناء يحتاجون إلى التعليم ولوازمه، فكيف بالأسر التي صار حصولها على رغيف الخبز أمرّ من المَرار، قال: “إلى كم سيطول زمن هذه المعاناة”؟.
قلت: “صدقاً لا أعرف، ولكنّه بحسب القراءات المُتوفّرة يبدو أنّه ليس زمناً قصيراً، وهذا يفترض أن يبتكر مَن بيدهم الحلّ والرّبط حلولاً مناسبة، وأن لا تُترك مساحة شبر من أراضينا دون استغلال”.
مجّ مجّة عميقة من سيكارته ونفخها نحو الأعلى وراح يراقب تبدّدها، وقال شبه هامس: “لقد فقدت مدينة حمص في العام الأخير من أدبائها، ومثقّفيها عدداً كبيراً، حتى لو حاول المُتابع تعدادهم فعلى الأغلب أنّه سينسى بعضهم لكثرتهم”.
قلت: “الأعمار بيد الله”.
عدّل من جلسته، وبدا الاهتمام على تقاسيم وجهه وقال: “هل بلغك خبر ذلك الخيّر”؟.
قلت: “عن أيّ (خيّر) تتحدّث”؟!!.
قال وهو مستمتع بما يسرده، حتى انفراج الأسارير: “يوم مرض الأديب والمسرحي المعروف محمد برّي العواني، وأنت تعرف حال الأدباء في بلادنا..”.
قاطعتُه قائلاً: “أعرف نغمة أدْركتْه حرفة الأدب، أي رافقَه الفقر، هذا منذ أيام العبّاسيين وحتى الآن، وحتى يحدث انقلاب في الأمور”.
تابع: “عَلِمَ بحاله هذا (الخيّر)، فطلب أن يُنقل إلى مشفى خاص وسوف يتكفّل بجميع النفقات، وكان ذلك، وحين سمع بمرض الشاعر محمد الفهد.. اتّصل بقناته التي يعرض عبرها خدماته، وقال له: “بلّغ زوجته أن تنقله إلى أيّ مشفى وأنا أتكفّل بدفع النفقات، ولكنّ المنيّة كانت أسرع”.
قلت: “أعرف ذلك، وربّما أشرتُ إلى شيء من هذا في بعض زواياي التي أكتبها، وكلّما مرّ ذكر هذا الرجل الذي يفعل ما يفعل لوجه الله، بل ويرفض أن يُشار إليه أنّه فاعل ذلك،.. كلّما تذكّرته لمعتْ في ذاكرتي حكاية “جابر عثرات الكرام” التي روتْها كُتب التّراث”.
قاطعني: “لا بدّ أنّه مُقتدِر ماليّاً”.
قلت: “ما كلّ مُقتدِر يفعل ذلك، هذا لا يفعله إلاّ أصحاب النفوس الكريمة، أنت تعرف كم عدد الذين أثروا خلال هذه الأزمة، وأصبحوا من أصحاب الأموال والعقارات، ولكنّ معظمهم، إنْ لم يكن ما يُقارب كلّهم لا يُقدمون على شراء ربطة خبز لجيران فقراء يجاورونهم في الحيّ”!!.
قال وقد أصابه شيء من الهمود: “معك حقّ، تُرى ماذا سيصنعون بكلّ هذه الأموال التي جمعوها، أو شفطوها، أو تواطؤوا عليها”؟!!.
قلت: “ليس هم من سيفعل، بل صاحب الفعل الحقّ، هو الذي سيفعل، وقد فعل وأخبر عنهم في قرآنه الكريم بقوله تعالى في سورة “التّوبة” حيث قال عزّ مِن قائل: “والّذينِ يَكْنزونَ الذّهبَ والفضَةَ ولا يُنفقونها في سبيلِ اللّهِ فَبَشّرهم بِعذابٍ أليم *34*، يوْمَ يُحمى عليها في نارِ جهنّمَ فَتُكوى بها جِباهُهمْ وجُنوبُهم وظُهورهم، هذا ما كنَزْتُم لأَنْفُسِكم، فَذوقوا ما كنتُمْ تَكْنزون* 35 *.
قاطعني قائلاً: “هنا ثمّة مَن يرى أنّ الإنفاق في سبيل الله هو الإنفاق على “الجهاد” لا غير، وليس على الفقراء”.
قلت: “لقد قال (ص) أثناء عودته من إحدى الغزوات، لقد عُدْنا من الجهاد الأصغر، إلى الجهاد الأكبر، فسُئل ما هو الجهاد الأكبر يا رسول الله، فأجاب أنّه مُجاهدة النفس، وهذا يُلغي ذلك التفسير، ومُجاهدة النفس لا تعني أن تُجاهد نفسك، وأن تأخذها بالطاعات فقط، بل بالقُربات، وهو كلّ ما يقرّب إلى الله تعالى من أفعال الخير، وما ينفع الناس مُقَدَّم على غيره، وفي هذه المسألة قال أحد الأئمة ما معناه، إنّ الهم يُغدق نعمه على البعض، فإن أحسنوا استخدامها، أعني فيما ألمحْنا إليه، أدامها عليهم وإلاّ سلبها منهم وأغدقها على آخرين يؤدّون حقّها”.
aaalnaem@gmail.com