العلاقات الأمريكية الروسية.. توتر في حدود التهدئة
ريا خوري
من الواضح أن العلاقة بين الولايات المتحدة الأمريكية وجمهورية روسيا الاتحادية تمضي في خطوط متداخلة ومختلطة، ليست مستقيمة أو نقية، تتراوح ما بين التقدم تارة، وفتح القنوات، والتراجع خطوات تارة أخرى. ففي أول مكالمة هاتفية أجراها الرئيس الأمريكي مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، باقتراحه تمديد معاهدة (ستارت ٣) للحدّ من التسلح النووي، بدا وكأنّ بايدن يريد للعلاقات بين البلدين أن يعتريها البرود.
في أواخر العام ٢٠٢٠ زمن الرئيس السابق دونالد ترامب، قال المبعوث الأمريكي الخاص للحدّ من التسلح، مارشال بيلينجسليا، إن الولايات المتحدة لن توافق على تمديد معاهدة (ستارت 3)، وأنه على روسيا التخلي عن أنظمة الأسلحة الجديدة الخاصة بها. وأعلن أن الولايات المتحدة لن توافق على تمديد المعاهدة دون مشاركة الصين في المفاوضات، وهو ما ترفضه روسيا.
على مدى العقود الماضية، تنظر الولايات المتحدة إلى روسيا كمنافس إستراتيجي على مستوى العالم، وفي المقابل ترى روسيا أن مواقف الولايات المتحدة تتمحور حول الرغبة الجامحة في الهيمنة الكاملة على العالم دون غيرها، وأنها تضع العراقيل أمام صعود الروح القومية في روسيا، وذلك بعد سنوات طويلة من السكون الإستراتيجي نتيجة تفكك الاتحاد السوفييتي السابق، وانزعاجها من رفع بوتين شعار “روسيا ستصعد من جديد”، وهو ما هزّ كل كيان الولايات المتحدة الأمريكية.
هذا الشعور المشحون في عمق العلاقة، لا يتيح فرصة لاكتمال أي دورة للتعاون بين البلدين. وإذا كانت الولايات المتحدة تتابع بقلق واضطراب، خطوات روسيا لاستعادة تاريخها القديم، فإن الروس يشعرون بالاستفزاز والتربص من جانب الولايات المتحدة والذي لا يُعتبر وليد اليوم فحسب، بل هو سلوك مستمر ومتواصل منذ أن بدأ حلف شمال الأطلسي (الناتو) التقدم شرقاً في المحيط الإستراتيجي لروسيا بعد عام ٢٠٠٣، وضمّ العديد من دول الاتحاد السوفييتي السابق إلى حلف الناتو بعد أن كانت في حلف وارسو.
وبالطبع هذا الموقف الأمريكي كان واضحاً منذ البداية، وخاصةً عندما أطلق مساعدو الرئيس بايدن تصريحات في بداية ولايته عن نيّته إجراء تغييرات جوهرية في علاقاته مع روسيا والصين، ضمن مواقفه الجديدة تجاه مختلف القضايا الدولية، حتى أن بعض المحلّلين الاستراتيجيين قالوا إن أولوية الرئيس بايدن لإصلاح العلاقات مع حلفائه الأوروبيين، تقوم على استخدامه للتهديد الروسي لدول التحالف الأوروبي، جسراً لتضييق الخلافات بين الولايات المتحدة وأوروبا، وبالتالي فإن هدفه، أي بايدن، هو توسيع الفجوة بين روسيا وأمريكا، ووضع مزيد من العقبات والعراقيل أمام إصلاح العلاقات بين البلدين، بدلاً من إصلاحها.
هذه التطورات المتلاحقة في العلاقة دفعت عدداً كبيراً من مراكز الفكر السياسي في الولايات المتحدة للدعوة لإيقاف التصعيد والتسخين بين الجانبين، خشية وصول العلاقة بينهما إلى مرحلة الحرب الباردة التي كان لها تأثير سلبي وخطير على العالم. وما أشارت إليه هذه المراكز من وجود فرصة لخطوات سياسية عقلانية تركز على المصالح المتبادلة بين البلدين والتي تحتاج فيها كل منهما إلى الأخرى، شاملة جميع قضايا الحدّ من التسلح النووي وتطوير إنتاجه في هذا المجال، وقضايا المناخ التي باتت من أهم القضايا العالمية، والإرهاب.
وعلى الرغم من التوتر والقلق الشديدين الذي يشوب علاقات البلدين بعضهما ضد بعض، فإنه لوحظ أن الدولتين تحاولان عدم دفع الموقف بينهما إلى حافة الهاوية والوصول إلى حرب مباشرة أو غير مباشرة، فقد أعلنت الخارجية الأمريكية أن سفيرها سيبقى في موسكو على أمل إبقاء القنوات مفتوحة بينهما، لتفادي أي مخاطر أو انزلاقات غير محسوبة بين البلدين وتكون عواقبها غير محمودة. كذلك قالت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الروسية في بيان لها: “إننا مهتمون بمنع أي تدهور غير محسوب في العلاقات الروسية الأمريكية”.
لاشك أن الأمريكيين يدركون عملياً مخاطر حدوث ذلك، حتى إن السفير الأمريكي روبرت وود جونسون، المختصّ بنزع السلاح، أبدى تفاؤله تجاه تجاوز التوتر الحالي بين البلدين بقوله: “إنه يرى أن اتفاق الرئيسين بايدن وبوتين على تمديد معاهدة (ستارت) سيكون خطوة مهمّة تعقبها خطوات جديدة لإذابة الجليد بين الدولتين، والخروج من دائرة القلق والتوترات والاتهامات المتبادلة”.
إن الوضع بين البلدين بصفةٍ عامة يرتبط بالتنافس الإستراتيجي بينهما، فلكلّ منهما رؤيته وأهدافه وتطلعاته لتأكيد مكانته ودوره في العالم، وهي رؤى تتناقض وتتفاوت من جانب كل منهما تجاه الآخر. ولهذا ليس مستبعداً أن تبقى علاقاتهما غير مستقرة تتراوح ما بين الصعود في ميزان التوتر، والتهدئة في أحيان أخرى، يفرضها عليهما احتياج كلّ منهما للآخر في قضايا عديدة تهمّ بلديهما.