“البعث”.. أحزاب في حزب وإيديولوجيا مركبة
“البعث الأسبوعية” د. خلف المفتاح
لم يكن “البعث” حزبا كباقي الأحزاب بل فلسفة وقضية مركبة وأحزابا في حزب، لأنه حمل في دستوره وأدبياته عناوين عديدة؛ ففي قضية الوحدة العربية، يلتقي مع التيارات الوحدوية على مستوى الساحة القومية بوصفها هدفا واجب التحقق، ولكنه يختلف معها في قضية الاشتراكية لجهة أن بعضها – سواء كان أحزابا أو تيارات – يتبنى المفهوم الليبرالي؛ وفي موضوعة الحرية نجد “البعث” في وثيقته النظرية، المقرة في المؤتمر القومي السادس، عام 1963، قد أعطاها البعد الاقتصادي والاجتماعي والتحرر من كل أشكال الاستغلال، وليس بالمعنى والمفهوم الليبرالي الغربي، علما أنها في دستوره ومنهاجه قد وردت بالشكل الليبرالي؛ ولعل هذا التكثيف للأهداف والمرونة في نصوص الدستور وقراءاتها المختلفة، ناهيك عن التيارات الثلاثة التي ظهرت في مؤتمره التأسيسي، هي التي منحته فرصة القراءات غير الصلبه لمبادئه، وهو ما يفسر حركات التغيير في قيادة الحزب الدولة بعد وصوله للسلطة، في الثامن من آذار عام 1963. ولم تقف الأمور عند ذلك، فقد قاربت قيادات الحزب مفهوم الوحدة مقاربتين مختلفتين في آلية تحقيقها، ففي بعض المنطلقات النظرية كان الشرط لقيام وحدة مع اية دولة عربية هو تشابه الهوية الايديولوجية للنظام السياسي في التصنيف الإيديولوجي، في لغة تلك الفترة، أي النهج الاشتراكي، ما أدخل الحزب في مأزق نظري لم يخرج منه إلا بعد قيام الحركة التصحيحية، عام 1970، عندما تبنى “البعث”، في المؤتمر القومي الثاني عشر، عام 1975، الرؤية والمقاربة التي قدمها القائد المؤسس، حافظ الأسد، بقوله في كلمته التاريخية بالمؤتمر: “لا شرط لنا على تحقيق الوحدة سوى قيامها”.
إن تجاوز قيادات الحزب، بعد العام 1970 وحتى الآن، للشرنقة الإيديولوجية والجمود العقائدي، والتعامل ببراغماتية عملية ومصلحية مع آلية تحقيق الأهداف الأساسية المحددة في دستوره بالوحدة والحرية والاشتراكية، هو الذي أنقذ الحزب مما وقعت فيه بعض الأحزاب الاشتراكية في العالم، وأدى إلى سقوطها وفشل مشروعها السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وخروجها من السلطة؛ فتلك الديناميكية التي تعتمد على ثورية التفكير في إطار التمسك بالأهداف، وبراغماتية الممارسة انطلاقا من التجربة العملية، هي التي منح “البعث” فرصة الاستمرار في السلطة كل هذه العقود من الزمن، على الرغم من كل التحولات التي شهدها العالم في إطار فلسفة الحكم والهوية الإيديولوجية .
لقد امتلك “البعث” أرضية وقاعدة اجتماعية وطبقية تتجاوز أعداد منتسبيه، لجهة تعبيره عن مصالح حقيقية لكل تلك التشكيلات، وقدم نفسه معبرا عن مصالحها وطموحاتها وأحلامها، وبشكل اساسي تحقيق الوحدة العربية التي شكلت الحلم الذي دغدغ مشاعرهم عبر الساحة العربية، لأنها سفينة النجاة التي تخرج الأمة من الشتات والانقسام والضعف والتبعية، وتعيد لها حضورها في المشهد العالمي، علما وثقافة وتقانة وقوة وكلمة مسموعة، ناهيك عن كونها الأساس لنهضة اقتصادية واجتماعية وتنموية تنعكس على مجمل أبناء الأمة الذين عانوا، لمئات السنين، من الفقر والجهل والتخلف والضياع، بحكم أشكال الاستعمار والاستبداد والتسلط والتجهيل الذي مورس عليهم داخلا وخارجا .
لقد شكل تأسيس “البعث” نقطة تحول فكري أساسي في المشهد السياسي العربي، لأنه جاء بصياغة واضحة ومحددة لأهدافه المتمثلة في الوحدة العربية والحرية والاشتراكية، عبر دستور تضمن الثابت والمتحول من الأهداف، واضعا رؤية ومبادئ تشمل كآفة مناحي الحياة السياسية والديمقراطية والاقتصادية والاجتماعية والتربوية، مع توصيف للحالة العربية وإبراز للهوية القومية بوجهها الحضاري القائم على البنية الثقافية لها، لا العرقية أو الشوفينية المتعصبة، فجاءت أفكار “البعث” عابرة لكل أشكال الهويات والانتماءات والخرائط الجزئية والضيقة، وهو ما يفسر انخراط وانضمام عشرات الآلاف لصفوفه من كل أبناء الأمة العربية، بعيدا عن أي انتماء عرقي أو إثني أو ديني أو جهوي، فشكل المظلة الهوياتية والفكرية للجميع، وهو ما تفرد به “البعث” عن كل الأحزاب التي شهدتها المنطقة العربية، منذ فجر الاستقلال حتى اليوم، فهو فلسفة عابرة لكل الحدود.
وبفضل حيوية وجماهيرية أهدافه وتعبيرها عن آمال القطاعات الواسعة على امتداد الساحة القومية، كان لـ “البعث” تنظيمات في معظم الأقطار العربية، إن لم نقل كلها، وتمكن بفضل قواعده الواسعة أن يصل للحكم، أو يشارك فيه، في العديد منها، إضافة لكونه اكتسب حيزا طبقيا واسعا تجاوز بشكل كبير – كما أسلفنا – القاعدة التنظيمية ولوائح المنتسبين إليه، فما يميز “البعث” أن قاعدته الطبقية أوسع بكثير من قاعدته التنظيمية، فهو بحق وحقيقة حزب الجماهير الكادحة، من عمال وفلاحين وصغار كسبة ومثقفين ثوريين وجنود، وغيرهم من شرائح المجتمع، حيث قدم نفسه حين وصل للحكم على أنه خادم ومعبر عن مصالح تلك الطبقات، والمتمثل لمصالحها ورغباتها وطموحاتها العريضة، واستطاع تحقيق إنجازات كبيرة على مستوى بناء الدولة والمجتمع، على الرغم من أنه لم يستطع تحقيق هدفه الكبير والعريض، ألا وهو هدف الوحدة العربية الشاملة .
إن عدم تحقيق هدف الوحدة له العديد من الأسباب الموضوعية والذاتية، منها أن اغلب الأنظمة العربية ليس نتاج عملية ديمقراطية وانتخاب حر ديمقراطي يفضي إلى سلطة تعبر عن مصالح أبناء الأمة، وتعمل على تحقيقها، بقدر ما هي أنظمة تابعة مستلبة الإرادة هدفها الاساسي البقاء في الحكم، والتمتع بامتيازاته، والاعتماد على عنصر القوة للاستمرار، أو الارتهان لقوى الخارج للاستمرار في السلطة، حتى لو كان ذلك على حساب السيادة الوطنية والقرار المستقل، بل ومصادرته لصالح قوى الخارج، وغياب الارادة السياسية الوطنية الحقة إلى درجة أن بعض الأنظمة العربية تآمر على كل التجارب الوحدوية التي تحققت، وبالتنسيق مع قوى خارجية ناصبت فكرة العروبة والفكرة القومية عداء واضحا. وإلى جانب ذلك، فقد اعتمد الطرح الوحدوي على مستوى النخب السياسية، ولم يتحول إلى تيار شعبي منظم يدفع بهذا الاتجاه، واختصر في الحماس للفكرة دونما وضع آليات عملية وخطوات تراكمية توصل لذلك الهدف بشكل متمرحل، كما في تجربة الاتحاد الاوربي؛ ولعله من الأسباب أيضا الخلافات الإيديولوجية بين الأنظمة العربية، وعدم فك الارتباط بين فكرة الوحدة والفلسفة السياسية للحكم القائم في كل بلد عربي .
إن أحد اهم أسباب ما واجهته – وتواجهه – سورية من مؤامرات هو أنها حاملة الفكر القومي الحضاري، وهو عنوان أساسي في فلسفة “البعث” ومبادئه الأساسية، بدليل أنها كانت طرفا في كل أشكال وتجارب الوحدة المفتوحة التي شهدتها الدول العربية، من وحدة 1958 مع مصر، إلى ميثاق نيسان عام 1963 بين سورية ومصر والعراق، وصولا لاتحاد الجمهوريات العربية عام 1971 إلى مشروع الوحدة مع الاردن عام 1975الى ميثاق العمل القومي مع العراق عام 1979، وانتهاء بإعلان قيام “جبهة الصمود والتصدي” لكامب ديفيد والنهج الاستسلامي عام 1980.
إن أخطر ما يواجه الدولة الوطنية العربية، والفكر القومي، والعروبة بشكل عام، في هذه المرحلة من التاريخ، هو الهجوم على فكرة العروبة، ومحاولة تسفيهها وإنكارها، واستدعاء الهويات والخرائط الضيقة، من طائفية ومذهبية وعرقية وجهوية، وغيرها، عبر فرية تاريخية غير مسبوقة يغذيها ويسوق لها شعوبيون جدد، هم في حقيقتهم وأكثريتهم صدى لقوى خارجية سعت – وتسعى – تاريخيا للهيمنة على الأمة العربية، واقتسام أو تقاسم جغرافيتها، والسعي لضرب ثقافتها القومية الحضارية التي استوعبت كل أشكال التنوع العرقي والديني والثقافي، دون أن تلغيه أو تحل محله، ما أكسبها سمة العروبة الحضارية والثقافية إذا كان الحديث عن دولة وطنية، فهذا لا يتعارض مع حقيقة انتماء الجزء إلى الكل، دونما إلغاء للخصوصية في إطار الهوية الجامعة؛ ولعل المثال الأوروبي هو الأقرب إلى ذلك، علما أن الفارق اللغوي في الأنموذج المشار اليه واضح تماما، لأنه قائم على العامل الاقتصادي، في حين أن العاملين الاقتصادي واللغوي هما حاضران في الحالة العربية، إلى جانب عوامل أخرى كثيرة منها المصالح المشتركة .
لقد أثبتت الوقائع – خاصة بعد الموجة الإرهابية المتطرفة التي اجتاحت المنطقة – أن أية محاولة لضرب فكرة الانتماء للعروبة، في أي بلد عربي، لن يكون بديلها هوية وطنية أصيلة بقدر ما يكون استدعاء وحلولا للهوية الطائفية أو العرقية؛ ويقدم العراق أنموذجا لذلك في الوقت الراهن، فغياب أو تغييب الخطاب العروبي ابرز الهوية أو الانتماء الطائفي والمذهبي والعرقي وهذا يطرح أشكالية معقدة حول مسألتي الهوية والمواطنة والولاء والانتماء سيما وان ما يميز شعوب المنطقة هو تعدد الانتماءات والهويات الفرعية رافقه اهمال في تكريس الهوية الوطنية والتأسيس لها منذ ولادة الدولة الوطنية العربية بعد سقوط الامبراطورية العثمانية ووقوع اغلب الدول العربية تحت السيطرة الاستعمارية منذ مطلع القرن التاسع عشر .
إن التيار القومي العربي والقوى القومية، وفي مقدمتها حزب “البعث”، يواجه تحديات حقيقية، بل وجودية، في إطار العمل على إعادة الروح للفكرة القومية بصيغ وأساليب جديدة تواكب التطورات الحاصلة في العالم، وتستفيد من التجارب، بما فيها تجاربنا السابقة بصيغها المختلفة، ودونما استفزاز، أو اقصاء لأي مكون من مكونات البنية الوطنية، على قاعدة المواطنة واحترام الاختلاف والخصوصيات، على قاعدة دولة القانون وسيادة الوطن والمواطن، وأن القوة في التنوع، وليس بالاستئثار والإلغاء .