الزمان بين محور الأرض ودوران الحدس.. ساعة الظل مقياس ساعة الشمس
“البعث الأسبوعية” ــ غالية خوجة
سيظل الزمان محوراً كونياً وبُعداً لا بد منه للحياة أينما كانت ووجدت، ولأهميته ذكره القرآن الكريم، ولأهميته اكتشفه الإنسان من خلال النيّرين والنجوم، لتكتمل المواقيت والفصول والطقوس، وهذا ما تخبرنا به الأساطير والخرافات والحكايات الشعبية وعلوم الوقت، حساباً وصناعة، وهذا ما بحث عنه الشعراء والفلاسفة والعلماء والمؤرخون والمبدعون.
وعندما يبحث الإنسان عن الوقت يحسبه فراغاً ولكنه متوازن بين الوجود واللاوجود، بين الحضور والغياب، بين الإضاءة والإعتام، فتدور الأرض في مدارها 365 يوماً، وتعرج سرعة الضوء، وتتحرك المجرات، ويموج اليوم “كألف سنة مما تعدون”.
ومنذ الوعي البدئي للإنسان، وهو يبحث عن جهات وأبعاد كل من المكان والزمان، وقد تعرّف إلى “الزمكانية” كونها وحدة واحدة تتناغم دقاتها مع العالم المعلوم، بينما هناك الكثير من الجهات الزمكانية غير المكتشفة في العالم اللامعلوم، وهو ما يجعل للحدس فضاءاته الإيقاعية، ليكون الكون بمكوناته “في فلك يسبحون”. وقد بحث جلجامش وهوميروس وابن عربي، وسواهم، عن “الخلود” ليجمّدوا الفناء، ويلغوا الزوال بمفهوم ما، لكن، هيهات للأبدية أن تقف، لأنها المتحرك حتى في الساكن، فلا تثبت في الثبات، أوَ ليسَ ديدنها اللاثبات؟
وهكذا، سعى الإنسان لإيقاف الزمان وتجميده وصَهْرهِ، واكتشف أن ما يبنيه من ضوء في المكان يلتقطه الزمان المتسلسل أو المتقطّع أو العابر، بكافة أشكاله الأفقية، العمودية، الحلزونية، العنكبوتية. وكان لابد من علم حساب الوقت، ومن وسيلة تكون بوصلة للزمان المتكرر لتكتمل ساعات النهار والليل برقم 12، والفصول برقم 4، والأشهر برقم 12، والسنة برقم 365، ولنصل إلى مرحلة الثانية وأجزاء الثانية، ويقودنا ذلك إلى زمن الذرة، والنانو، وحركة الفيزياء والكيمياء والهندسة الفراغية الكونية، انطلاقاً من الإنسان عقلاً ونفساً وروحاً وجسداً، وتفاعلاً مع الطبيعة والبيئة والمجتمع وتفاصيل الحياة المختلفة.
ولذلك، كانت الساعة وسيلة لا بد منها للعبور إلى الأمام لا الوراء، على عكس ساعة “ويلز”، وبدأت المواقيت من الظل وزواله، لتعبر إلى ساعتها الترابية والرملية والمائية والشمسية والشمعية والبخورية والميكانيكية والاسطرلابية والفلكية والكهربائية والتكنولوجية والذرية، معيدة ترتيبها بدءاً من الضوء وإشراقه، ليكتمل اليوم في سلسلة لا تكتمل لأنها مفتوحة النهايات.
وحدث وأن اكتشف الإنسان الزمان، وبدأ مسيرته في القبض عليه عبْر أدواته المناسبة لكل زمان، وتراكمت التقاويم بين شمسية وقمرية وفرعونية وشرقية وغربية إلى أن استقرت على تقويمين: الهجري والميلادي. ثم كان أن انطلقت وسائل حساب الوقت لتحديد المواقيت الحياتية الضرورية، ومن تلك الوسائل “المزولة” كأداة توقيت نهاري، المعتمدة على حركة الظل مقياساً عاكساً لحركة الضوء؛ وما بين الظل والشمس قسّم مخترعو هذه الساعة علامات الأرض وجهاتها نقاطاً وخطوطاً، ورسموها على صفيحة عريضة، تتوسطها عصا مستقيمة أفقية، أو رأسيةـ هي الجدة الأولى لعقارب الساعة؛ وتبعاً لطول ظلها واتجاهه الناتج عن أشعة الشمس، يتمّ تحديد وضبط الوقت، وبذلك يتمّ الحصول على قياس متناغم طرفه الأول حركة الشمس وزاوية انحرافها عن الأفق واقترابها وابتعادها عن السمت، وطرفه الثاني حركة الظل؛ ويرجع عمر هذه الساعة (“المزولة” – “ساعة الظل” – “ساعة الشمس”) المرتكزة على الزوايا، لا الدقائق والثواني، إلى عام 3500 قبل الميلاد.
ومن توقيت آخر، ابتكر القدماء أداة ليلية لقياس الوقت من خلال خطوط رأسية تسمى “مرخت”، استخدمت، حوالي عام 600 ق. م، لتتناغم مع حركة النجوم، ومنها خطّان رئيسان، يتمّ ضبط أحدهما مع نجم الشمال، والآخر مع نجم القطب، لإنشاء خط زوال سماوي بين الشمال والجنوب، ليتمّ تحديد الوقت بدقة من خلال متابعة نجوم معينة عند عبورها هذا الخط أو ذاك.
لقد كتب عن هذه المزولة الشمسية محمد بن موسى الخوارزمي، إلاّ أن إبداع علاء الدين بن الشاطر، المهندس، وشيخ المؤقتين في الجامع الأموي بدمشق، تجلّى من خلال جمعه بين الساعة الشمسية و”الاسطرلاب”، لتكون ساعة فلكية في جامع بني أمية الكبير بدمشق، واتسمت بالكوبرنيكية، وسبقت كوبرنيكوس بمائة عام؛ وقد أبدع ابن الشاطر “صندوق الياقوت الجامع لأعمال المواقيت”، عام 1365، والذي احتفظت به مكتبة حلب الوقفية. بينما أنشأ محمد الساعاتي ساعة جامع بني أمية الكبير بدمشق في القرن الثاني عشر الميلادي، وهي ثاني ساعة فرعية بعد ساعة بي شينغ الصينية، وتعمل بالماء وتصدر أصواتاً كل ساعة، وقد ألّف ابنه رضوان الساعاتي أول كتاب في هذا المجال: “علم الساعات والعمل بها”.
ويتوزع في مدينة حلب تراث هام للساعات المنتشرة بين المدرسة الرضائية، وجامع العثمانية، وجامع المهمندار، وجامع الأطروش، ومنها 4 أدوات لضبط الوقت في الجامع الكبير: خط الظل المحفور على رخام يؤدي إلى الرواق الشمالي، المزولة الشاقولية الرخامية، المزولة الأفقية، الآلة الفلكية ذات الحلق، وهذا دليل على أهمية الجامع الأموي الكبير بحلب العلمية، ومنها علوم الفلك، ومكتبته ضمت العديد من المخطوطات النادرة، ومنها في هذا المجال كتب العالم الفلكي الحلبي أحمد أغا الجزار.
في عصرنا الحالي، الجميع يعرف الساعات التكنولوجية حفيدات تلك الساعات، لكن مواقيت الأرض صارت تابعة للمناسبات العالمية، مثل ساعة الأرض، وساعة الانقلاب الصيفي والشتوي، وساعة القيامة الرمزية التي تنذرنا بالقيامة لكثرة الحروب على هذه الأرض.