صدوع الذات
“البعث الأسبوعية” سلوى عباس
في كتابه “أنماط الرواية العربية الجديدة”، يرى شكري عزيز ماضي أنه في ظل ما يعتري الذات الإنسانية والواقع من شروخات وهزائم، نحتاج إلى فعل إبداعي يعيد النظر في كل شيء، ويدعو لقراءة مشكلات العصر قراءة جديدة. والسؤال الذي يحضر هنا: ما الشكل الذي يمكن أن تأخذه هذه القراءات؟ هل يقصد شكري ماضي اختراق السائد في التقنية الروائية، وخلق تقنيات ومفاهيم جديدة؟ أم أنه يرمي إلى التمرد على الماضي برسم آفاق مرحلة روائية جديدة؟ خاصة وأن هناك في أعماق الإنسان من الصدوع ما فيها، والحياة الثقافية والاجتماعية والسياسية بعامة ليست ملساء، ودائماً فيها شروخ ونتوءات وأخاديد، لكن الأمر يختلف بالنسبة للبعض؛ وبصورة عامة، للفنانين صدوعات داخلية أغوارها بلا حدود، ومن ناحية أخرى الحياة العربية منذ مئات السنين فيها الكثير من الصدوعات على كافة الصعد.
وفي قراءة عميقة لما طرحه شكري ماضي في كتابه، نرى أنها نقطة تحسب لصالح الأدباء الذين يعيشون في زمن الصدوع والخراب، فكثيرون منهم يرون أنه في لحظة الصدع الداخلي، أو الخارجي، الروحي، النفسي، الإبداعي، وغيرها.. في هذه اللحظة الاستثنائية والدقيقة والشديدة التوتر، إن كان لدى الكاتب ما يقوله بحق، فليقله، لأنها لحظة كاشفة للإبداع العادي الذي ينضج بالاجترار والتكرار إلى درجة يفقد معها صفة الإبداع، وبين الإبداع الحقيقي الذي يغامر في الحفر في الصدوعات.
وتأكيداً على ماجاء في كتاب شكري ماضي، فإن في كل مرحلة، أو كل عدة أجيال – كما أثبتت الوقائع التاريخية والأدبية – ينبثق الحلم بتجاوز الماضي، وإعطاء ما لم يعط من قبل في شتى جوانب الحياة، وليس في الأدب فقط؛ وهذا جزء من الطبيعة البشرية، وهو يشير إلى أمرين يتمحور الأول منهما حول من يطالبون بالتجاوز بفنون الإبداع الفني بشكل عام، وليس في الرواية فقط، وبقتل الأب، وبأنهم جيل بلا أساتذة، وكأن التاريخ سيبدأ من عندهم، وما هذه – كما يقال – إلا “جعجعة بلا طحن، غالباً لا تقدم ولا تؤخر، وسرعان ما تذهب هباء”. والأمر الثاني هو أن بعض الكتاب والكاتبات يكون لديهم الطموح بترك بصمتهم على التاريخ فلا تكون الأمور محصورة بالجعجعة، بل بإبداع حقيقي يستوعب ما مضى ويتجاوزه دون الوقوف عنده وتقديسه، فإذا استوعب الأديب ما مضى بالنقد والتجاوز والمغامرة فله أن يقدم جديده، وهذا لا يحصل بين عشية وضحاها، بل قد يمضي أحيانا خمسون عاماً لا يكون هناك تجاوز لما أنتجه الأسلاف، وأحياناً يكون هناك مراحل متوترة وسريعة، والتجاوزات والمغامرات فيها متلاحقة إلى أن يستوي الأمر بظهور تيار أدبي جديد، أو مدرسة فنية جديدة.
وكنت قد سألت أحد رواد الرواية السورية عن التقنية اللغوية التي يعمل عليها بما يجعل إبداعه يحقق حضوره في كل كتاب ينجزه ويلقى قبولاً لدى كل الأجيال، فأجابني بأن هاجس عمره وحياته أن يخرج من جلده مرة بعد مرة، حتى يحافظ على لذة المغامرة في البحث عن كتابة جديدة، وبناء روائي جديد، ولغة جديدة؛ وأكد أن هذه اللذة لاتعادلها لذة، وأنه لايقدم على التفكير بكتاب إذا لم يكن لديه جديد يقدمه على صعيد التقنيات، وأنه مهموم ومشغول دائماً بفكرة البحث في التقنية التي سيقدم فيها الكتاب، وتلح عليه أسئلة متعددة: بأي ضمير سأكتب؟ وبأي زمن روائي؟ وعن أي شيء؟ وكيف سيكون المكان؟ وأن هذه الأسئلة أساسية بالنسبة له، لأنه لا يستطيع أن يبدأ رواية إذا لم يحسمها نهائياً، ودائماً هناك محاولات تجريب أولية، وعقّب على ما جاء في كتاب الناقد شكري ماضي بأن الصراع الموجود في العالم اليوم حول الرواية هو من سيضيف إلى التقنيات، وليس من سيكتب حكاية جميلة، لأن الحكايات موجودة في كل مكان؛ ويبقى السؤال هو: كيف نضمن هذه الحكاية بسياقها الروائي؟ وكيف نقدم شخصياتها؟ والسؤال القائم والملّح لديه دائماً: كيف يكتب؟ وليس ماذا يكتب؟