كانَ.. الآنَ
د. نضال الصالح
قبل تسعة عقود ونصف العقد كتب صاحبا “الديوان”، الكتابُ العلامةُ في بواكير النقد الأدبي العربي الحديث: “الأدعياء في كلّ بلد كثيرون، وفي كلّ قطر كالذباب يعيشون عيالاً على الأدب وحميلة على أهله وذويه، ولكنهم فيما نعرف لا يعدون الطنين.. ولا يعدو جمهور الناس معهم أن يلحظوهم كما يلحظ أحدنا العناكب ناسجة لها بيتاً بين جدارين، فيقول لخادمه أو ربّة بيته أزيلي هذا وأتِ عليه بالمكنسة، ثم لا يقولها حتى ينسى أمره ويذهل عن خبره”.
بعد تسعة عقود ونصف العقد يبدو ما سبق من القول للعقّاد والمازنيّ راهنياً بامتياز، بل إنّ هذا الراهن أشدّ صخباً بالطنين، وأكثر تخمة بالعناكب ممّا كان الحال عليه آنذاك، ليس في مجال الأدب وحده، بل في غير مجال، من جهة، وباستثناء سمة واحدة ممّا ذكر صاحبا الديوان من جهة ثانية.
أمّا السمة فهي ما يعني جمهور الناس بتعبيرهما، الذي لم يعد سوى ندرة منه، قادرة على تمييز الأشياء من صورها، وحقائقها من مجازاتها، ويقينياتها من أوهامها، بفعل غير سبب، ومن أبرز تلك الأسباب، أو الأدوات على نحو أدقّ، إمبراطوريات الإعلام الفضائي التي تمكّنت خلال عقود قليلة من تدمير الذائقة، أو تشويهها، أو إحلال وعي جمعيّ بديل منها، يعتقد بأنّ الأدعياء، في الفن بمختلف أشكاله وتجلياته، هم المثال، وسواهم، المثال الحقّ، هم الأدعياء.
ومن تجلّيات ذلك، بل من بعض تجلّياته، ما يتناسل في الواقع من زبد في مجال الأدب وسواه ممّا ينتمي إلى حقل الإبداع. ومن بعض صور هذا الزبد ما تزعم بعض الجوائز الأدبية العربية أنه الأعمال الروائية الأكثر إبداعاً في المشهد الروائي العربيّ، وما يستبسل بعض المؤسّسات الثقافية في تكريسه بوصفه طاقات هي الأكثر كفاءة في أن تشغل هذه المهمّة أو تلك من مهمات العمل الثقافيّ، وما تمكّنه بعض الجهات الإعلامية لفقراء معرفة من أن يكونوا معدّين، أو محررين، أو محاورين، أو.. وما يطالعه المتابع للشأن الثقافيّ من أسماء في بعض الدوريات الثقافية بوصفها رؤساء تحرير، أو مديري تحرير، أو هيئات تحرير.
كان ما قاله العقّاد والمازني قبل نحو قرن، وإلى الآن لمّا يزل ما قالاه بسبعة أرواح كما يُحكى عن القطط في الأمثال الشعبية، التي تتقن وسائل بقائها على قيد الحياة. وإلى الآن لمّا يزل الزيف يجدّد جلده كما تفعل الأفعى، والشعوذة تتلوّن بغير لون كما تفعل الحرباء، والضحية دائماً ما سمّاه صاحبا الديوان بجمهور الناس، الذي صار مختلفاً، أو يكاد، عن ذلك الجمهور الذي كان زمنهما، فبدلاً من أن يقول أحد منه، كلّما رأى عنكبوتاً: “أزيلي هذا وأتِ عليه بالمكنسة”، يتسابق إلى منح الهواء للعناكب لتبقى على قيد الحياة، بل لتزداد تناسلاً، ويزداد الزيف شهوات إلى التورّم.
وبعد، وقبل، فللكاتب الأمريكي الساخر مارك توين قوله:
يستطيع الكذب أن يدور حول الأرض في انتظار أن تلبس الحقيقة حذاءها.