مجلة البعث الأسبوعية

كيف يعمل خط أنابيب أوروبي على إخراج وعد بايدن بـ “عودة أمريكا” معركة نورد ستريم 2: كونغرس غاضب وحلفاء متباعدون ومليارات من الدولارات على المحك!!

“البعث الأسبوعية” ــ تقارير

كان من المفترض أن تكون حقبة بايدن مختلفة، فقد وصل الفريق الجديد إلى المكتب البيضاوي على ظهر مجموعة وعود بإصلاح التحالفات الأمريكية بعد الضربات التي تعرضت لها خلال سنوات دونالد ترامب الأربع. “أمريكا عادت.. أمريكا عادت.. لقد عادت الدبلوماسية إلى قلب سياستنا الخارجية”، و”سوف نعمل على إصلاح تحالفاتنا ونتعامل مع العالم مرة أخرى، ليس لمواجهة تحديات الأمس، بلو تحديات اليوم والغد..”، حسب كلمات الرئيس في 4 شباط، خلال خطابه الأول عن السياسة الخارجية.

هذه التصريحات أكسبت بايدن ثقة كبيرة لدى الحكومات في جميع أنحاء العالم. ومع ذلك، وقبل أن نصل إلى شارة الـ 100 يوم الأيقونية، يقود الكونغرس الإدارة الجديدة إلى عمل يمكن أن يحول إعادة إطلاق الولايات المتحدة كـ “قائدة” لشبكة من التحالفات العالمية إلى تحطم السفينة قبل إطلاقها صافرة الرحلة. والمشكلة هي خط أنابيب الغاز نورد ستريم 2، الذي يتوقع أن ينقل قرابة 55 مليار متر مكعب سنوياً من الغاز الطبيعي الروسي إلى ألمانيا، والذي يوشك على الاستكمال خلال بضعة أشهر. إن تحالفاً من الحزبين في الكونغرس يستهدف إحباط ما يعتبرونه حملة الرئيس بوتين لاكتساب نفوذ سياسي على أوروبا من خلال ربطها بالغاز الروسي.. والآن، يضغط النواب على إدارة بايدن لتنفيذ العقوبات التي كانوا أقروها بالفعل.

 

قطيعة مع برلين

ومع ذلك، فإن وقف خط الأنابيب لن يؤدي إلى انتكاسة للروس فقط، بل سيحول مشروعاً دولياً للبنية التحتية، بقيمة 11 مليار دولار، ويشارك فيه بعض أكبر الشركات الأوروبية، إلى مقبرة مائية باهظة الثمن. بالنسبة للسياسيين وقادة الأعمال الألمان الذين صلوا من أجل فوز بايدن في انتخابات تشرين الثاني – وفي بعض أعلى المناصب في البلاد، بكوا فرحاً خلال خطاب تنصيب الرئيس الجديد – يثير الصراع على خط الأنابيب مخاوف شتى. ورغم أن بايدن نفسه يقول إن خط الأنابيب “صفقة سيئة لأوروبا”، إلا إنه يتردد في المضي قدماً في فرض عقوبات من شأنها أن تؤثر على حليف مهم. وفي مواجهة مطالب الكونغرس باتخاذ إجراءات قصوى من شأنها القضاء على خط الأنابيب – وهي نتيجة قد لا تكون ممكنة – يبحث كبار المساعدين عن إجراء من شأنه عدم إغضاب الكونغرس دون التسبب بقطيعة مع برلين. وإذا لم يتم العثور على حل وسط، واستسلمت الإدارة للكونغرس، فقد تكون النتيجة – كما يخشى أحد كبار المسؤولين في برلين – “انقلاب جزء كبير من الحزب الديمقراطي المسيحي المتحالف مع الاتحاد الاجتماعي المسيحي ]البافاري] على الولايات المتحدة”. وقد شغل تحالف يمين الوسط الألماني منصب المستشارية طوال فترة وجود الجمهورية الألمانية بعد الحرب، باستثناء 20 عاماً. ويضيف المسؤول أن مثل هذه القطيعة – مع ما يمكن القول أنه الحزب الأكثر تأييداً لأمريكا في أوروبا – “لم تحدث في تاريخ هذه الجمهورية”. إن إهانة المستشارة أنجيلا ميركل، التي خصها ترامب بمعاملة سيئة، والتي تقترب الآن من نهاية ولايتها التي استمرت 16 عاماً، لن تُنسى.

 

الكونغرس.. عداء قديم

يكره الكونغرس خط الأنابيب منذ أن تم التفكير فيه لأول مرة قبل عقد من الزمان باعتباره توسعاً لخط أنابيب نورد ستريم الأصلي، والذي دخل حيز التشغيل في عام 2011. في عام 2018، أعلن وزير الخارجية ريكس تيلرسون اعتراضاً أمريكياً على خط الأنابيب قبل فترة وجيزة من إقالته. وعلى الرغم من أن تشريع الكونغرس، لعام 2019، الذي يمكّن البيت الأبيض من استهداف نورد ستريم 2 قد أخاف معظم المقاولين الغربيين من الباطن، الذين كانوا يعملون في المشروع، إلا أن إدارة ترامب لم تتخذ أي إجراء مهم ضد خط الأنابيب حتى فرضت عقوبات على سفينة روسية واحدة كانت تمد الأنبوب في الثالث من كانون الثاني. 19 من هذا العام، آخر يوم كامل لترامب في منصبه.

 

الإدارة في مأزق

علاوة على المخاوف الجيوستراتيجية، تزداد المعارضة الأمريكية للمشروع من خلال الطلب الضمني بالرد على ما يعتبره الكونغرس قائمة طويلة من “الجرائم” الروسية: سجن أليكسي نافالني وسجنه، واختراق الشركة الأمريكية “سولار وينغس” التي تطور برامج للمساعدة في إدارة الشبكات والأنظمة والبنى التحتية لتكنولوجيا المعلومات وتطوير المنتجات في عدد من المواقع في الولايات المتحدة والعديد من البلدان الأخرى، وضم القرم والقتال في شرق أوكرانيا. لا يزال الديمقراطيون يحتفظون بالغضب ضد الروس لتدخلهم في انتخابات عام 2016، بينما يسعى الجمهوريون إلى إعادة تأكيد أوراق اعتمادهم المناهضة لموسكو – والتشويش على الإدارة الديمقراطية الجديدة – بعد أن قضموا ألسنتهم خلال السنوات الأربع لأغنية الحب التي قدمها ترامب لفلاديمير بوتين.

ولكن مهما كان الضرر الذي ستلحقه جولة جديدة من تطبيق العقوبات بروسيا، فسيكون ضئيلاً نسبياً مقارنة بالضرر الذي يلحق بالعلاقات الثنائية بين الولايات المتحدة وألمانيا في لحظة حرجة. إذ تتطلع واشنطن إلى أوروبا – وفي مقدمتها ألمانيا – لصياغة سياسات تكميلية لإدارة مواجهة مع “صين أكثر جرأة”؛ إذ وفيما يتعلق بقضايا مثل وضع المعايير وتنظيم العالم السيبراني، يمكن فقط للجهود الأمريكية الأوروبية أن تمنع الطموحات الصينية. وتأمل واشنطن أيضاً أن تساعد ألمانيا وشركاؤها في الاتحاد الأوروبي في وقف الجهود الصينية للسيطرة على مجموعة من الوكالات الدولية وتوفير جبهة موحدة بشأن “انتهاكات حقوق الإنسان” في الصين، إضافة إلى بث روح جديدة في حلف الناتو، وإعادة تنشيط الاتفاق النووي الإيراني، ومن المفارقة، أن العلاقة مع روسيا ستكون من بين المجالات التي سيكون الدعم الألماني فيها ضرورياً.

 

العقوبات

المثير للسخرية هو أن الكونغرس مصمم على ضرب روسيا لدرجة أنه يهدد بتقويض التحالفات عبر الأطلسي التي تعتبر ضرورية لمواجهة روسيا على المدى الطويل. ويبدو أن المشرعين الأمريكيين قد نسوا ما يسمى بالعقوبات “الثانوية”، التي لا تؤثر فقط على البلدان المستهدفة بالعقوبات، بل وعلى الدول التي تعمل في إطار حقوقها. وكان وزير الخزانة الأمريكية، جاك لو، حذر، في العام 2016، من الانجراف في مثل “هذه العقوبات التي يُنظر إليها، حتى من قبل بعض أقرب حلفائنا على أنها محاولات خارج الحدود الإقليمية لتطبيق السياسة الخارجية الأمريكية على بقية العالم”، ولكن تحذيره، جنباً إلى جنب مع تعليقات أخرى، لم يترك أثراً يذكر. “ليس أعداؤنا فحسب، بل وأصدقاؤنا ينظرون إلى هذه العقوبات على أنها أداة للتنمر”، مضيفاً: “لن تجد باحثاً ذا سمعة طيبة هنا، أو في أي مكان [خارج الولايات المتحدة]، يعتقد أن العقوبات الثانوية قانونية بموجب القانون الدولي”.

ومع ذلك، فقد اكتسبت هذه العقوبات شعبية متزايدة منذ أن صوت الكونغرس لصالح قانون هيلمز – بيرتون الذي استهدف كوبا، في العام 1996، على الرغم من تردد إدارة كلينتون. إن مكانة أمريكا الفريدة في الاقتصاد العالمي ومكانة الدولار كعملة احتياطية عالمية جعلت هذه العقوبات فعالة، وهي مزايا لا تتمتع بها أي دولة أخرى. وفي الآونة الأخيرة، عززت العقوبات الثانوية التي استخدمتها إدارة ترامب لإلحاق الضرر بالاقتصاد الإيراني، من جاذبية الكونغرس.

على هذه الخلفية، كان على الألمان أن يشككوا في الخطاب الأمريكي الجديد الذي سمعوه عن مركزية التحالفات، وعن سياسة من شأنها – كما أعلن بلينكن – أن “توازن بين التواضع والثقة”. لقد أحبطت قضية نورد ستريم 2 الألمان الذين يشعرون، على الرغم من جهود إميلي هابر، سفيرتهم المرموقة في واشنطن، بأن المنطق الصائب لا يلقى آذاناً صاغية في العاصمة الأمريكية، وتتمثل وجهة نظرهم بأن القضية التي يثيرها المدافعون عن العقوبات موضع شك في أحسن الأحوال، وأن الفكرة القائلة بأن بوتين سوف يوقع أوروبا في شرك الطاقة فكرة بعيدة المنال، إذ تعمل أوروبا على تنويع مصادر الطاقة الخاصة بها منذ عقود، وهي تتلقى الآن أقل من 40% من غازها الطبيعي من روسيا. كما هناك القليل من الأدلة على أن واردات ألمانيا الضخمة من الغاز الروسي قد أثرت على سياسات ألمانيا تجاه روسيا.

وفي حين أن ألمانيا رائدة في مجال الطاقة المتجددة التي تشكل 18٪ من إجمالي استهلاكها، فإن استكمال نورد ستريم 2 لن يعني على الأرجح صادرات أكبر بكثير من الغاز الروسي إلى أوروبا، وهو يعني فقط أن كميات أقل من الغاز تصل إلى أوروبا عبر خطوط الأنابيب التي تمر من خلال أوكرانيا وبيلاروسيا وبولندا (أدى القلق بشأن رسوم نقل الغاز المتناقصة إلى أن تكون أوكرانيا وبولندا من بين جماعات الضغط الصاخبة لقتل نورد ستريم 2).

في ظل هذه الخلفية، وبخبرة تاريخية واسعة، يجادل الألمان بأنهم لن يكونوا في قبضة الكرملين، وأن الاعتمادية سوف تسير في الاتجاه الآخر، حيث تحتاج روسيا “المتداعية اقتصادياً” – وفق البروباغاندا الخاصة بهم – بشكل عاجل إلى مدفوعات باليورو مقابل غازها، وهي نقطة أقرها خبراء مثل يوجين رومر، كبير المراقبين السابقين في مجتمع الاستخبارات الأمريكية في روسيا.

كما أن هناك طرقاً للتوصل إلى حل مع ألمانيا، إذ يعتقد العديد من السياسيين الألمان – بمن في ذلك الخضر الذين يكرهون تدفق المزيد من الوقود الأحفوري إلى البلاد، وصناع السياسة الذين يكرهون أي عمل مع روسيا – أن خط الأنابيب كان فكرة غبية منذ البداية، لكن العلاقات مع إدارة ترامب كانت شديدة السمية، والمشروع الآن على وشك الانتهاء بحيث لا يمكن التخلي عنه، وهناك متسع كبير للتفاوض.

اقترح السفير الألماني السابق لدى الولايات المتحدة ولفجانج إيشينغر أن تشرط ألمانيا تدفق الغاز بـ “تحسينات في السلوك الروسي”. ورداً على الحجة القائلة بأن روسيا ستحول الغاز الذي يعبر أوكرانيا الآن إلى نورد ستريم 2، وستحرمها من رسوم العبور التي تشتد الحاجة إليها، يطرح ستيفن بايفر، الذي شغل منصب مبعوث الولايات المتحدة إلى أوكرانيا، في إطار إلحاحه على ضمانات روسية في هذا الشأن، بأن تواصل روسيا ضخ ما لا يقل عن 40 مليار متر مكعب من الغاز عبر أوكرانيا، كما تفعل الآن، بعد عام 2024، عندما تنتهي الصفقة الحالية.

 

أولويات

الفن الأهم في السياسة العالمية بالنسبة لواشنطن هو الإبقاء على التحالف القوي عبر المحيط الأطلسي، وهذا شيء لن يحدث إن شعرت أقوى دولة في أوروبا، ألمانيا، بالاستياء.

ومنذ فترة طويلة، وقبل انتخابات تشرين الثاني الماضي، يتم تداول رواية وسط الطبقة السياسية الأوروبية تركز على الاعتقاد بأن ترامب لم يكن بعيداً عن مرتسمات السياسة الخارجية الأمريكية، بل هو استمرار لاتجاه خفض العلاقات عبر الأطلسي الذي كان بدأ خلال الإدارة الأولى لجورج دبليو بوش وتواصل خلال فترة باراك أوباما في منصبه.

والاستدلال الطبيعي من وجهة النظر هذه هو أن عبارة “أمريكا أولاً” قد تختفي، لكن الاستعداد لإغضاب الحلفاء القدامى قد يكون قصة المستقبل. هذا، إلى جانب أن الخوف من أن استعادة بايدن قد لا تدوم طويلاً، وأن هناك رؤساء مستقبليين شبيهين بترامب في مستقبل أمريكا، يغذي المخاوف الألمانية والأوروبية الأوسع. فما هو الهدف من دعم حملة الولايات المتحدة للحد من “سوء السلوك الصيني” إذا لم يكن من الممكن الاعتماد على الولايات المتحدة للتعامل مع التحالف عبر الأطلسي باعتباره طريقاً ذا اتجاهين؟ السؤال هو واحد على الكونغرس وإدارة بايدن أن تتصارع معه الآن.

.. ربما رحل ترامب، ولكن أمريكا ستظل شريكاً متهوراً وعدائياً. وفي إشارة إلى شائعات عن عقوبات وشيكة على نورد ستريم 2، ومبادرات بايدن الأخرى، يتساءل كلاوس ديتر فرانكنبرغر من صحيفة فرانكفورتر ألجماينه تسايتونج، الشهر الماضي، عما إذا كان بايدن سيتحول إلى “ظل ترامب”.

***

 

يأمل قادة الأعمال الألمان بعصبية أن يسود العقل، ويشيرون إلى الحقيقة، التي نوهت إليها صحيفة “الفاينانشيال تايمز” البريطانية، بأن بلينكن كتب ذات مرة كتاباً بعنوان “حليف ضد حليف: أمريكا أوروبا وأزمة خط أنابيب سيبيريا”، استناداً إلى أطروحته الجامعية في جامعة هارفارد، في معركة عبر الأطلسي، في الثمانينيات، حول أول خط أنابيب لجلب الغاز الروسي إلى أوروبا. هم يشعرون براحة تبعث على القلق بمعرفة أن وزير الخارجية جد نفسه ملزماً فيما مضى بمجاملة الاستبدادية الأمريكية.

يقول دبلوماسيون ألمان إنهم يثقون في نظرائهم الجدد، المألوفين من إدارة أوباما، ويعتقدون أن نوعاً من الصفقة للسماح بخط الأنابيب بالمضي قدماً أمر ممكن. لكنهم يعترفون بأن الديناميكية بين طرفي شارع بنسلفانيا، الفاصل بين البيت الأبيض والكونغرس، هي صندوق أسود بالنسبة لهم، وصندوق مقلق.