الذاكرة التي تدافع عن نفسها باستمرار وليد إخلاصي.. خيالات مصلحين كبار لا تزال تسكن داخله!!
“البعث الأسبوعية” ــ فيصل خرتش
قبل أن أعرف وليد إخلاصي تعرّفت إليه عن طريق نبيل سليمان في كتاب (الأدب والأيديولوجيا).. في تلك الأيام، كنّا نفكر بطريقة خشبية ونحشو رؤوسنا بالشعارات والمواقف الحاسمة الباترة ونرتدي أحذية ضيقة تجعلنا نفكر باتجاه واحد.
كان الرجل الوسيم الجذّاب الهادئ الصاخب يجلس في المقهى الثقافي ونجلس بعيداً عنه، نراقبه وهو يحشو غليونه ويثرثر وحوله بشر ينصتون إليه بهيبة ووقار وقد يضحكون معه قليلاً، ولكن أبداً لم تكن ضحكاتهم طفليّة كما يفعل هو.
أناقته كانت تستفزنا، كذلك مشيته وحركاته، كل شيء فيه يثير أعصابنا ولا تعود إلى هدوئها إلا بعد مراجعة بعض ما كتبه نبيل عنه، من مثل هذا الكلام: “يتبيّن ممّا تقدّم أن الكاتب لم يتبع نظرة معيّنة إلى الإنسان والعالم والتطوّر، فهو انتقائي: أحياناً يأخذ من الماركسية، وأخرى من الوجودية، أحياناً ينظر بعين المادي وأخرى بعين المثالي.. هناك التأثير الديني إلى جانب العلماني، الاشتراكي إلى جانب البرجوازي”. وبعد ذلك ننظر شذراً إلى ذلك الرجل الذي لا يزال يتحدث، وتهدأ أعصابنا ونحن نحتسي قهوتنا الباردة.
ثم مضى حين من الدهر، اقتربنا من طاولته، جالسناه وسمعنا حكاياته وأنصتنا إلى طرائفه وأحاديثه الشيقة، عايشناه على طاولة واحدة لسنوات طويلة، قرأنا كتبه وشاهدنا أعماله ممثّلة على خشبة المسرح وشيئاً فشيئاً صرنا نقترب من روحه أكثر، وراح الثلج يذوب عن قشرة جلدنا فوجدنا الرجل يحترق بجمر الكلمة، يتوسل فيها وبها لإصلاح الخراب الذي ينخر فينا وفي كل شيء حولنا… بسيط كالماء، حنون كالمودّة، حيادي وعادل في أدقّ تفصيلات حياته، وبين هذا وذاك يظل الرجل بشراً من لحم ودم وكل ما يمكن للمرء أن يسجّله عن وليد إخلاصي، في دفتر صغير وفي رأس الصفحة، إنه يكره الظلم على نفسه وعلى الآخرين، يحبّ الحقّ ويفتش عنه كي يدافع عنه بوسائله التعبيرية الخاصة به.
الآن، وبعد أن صار للرجل أكثر من 45 عملاً في القصة والرواية والمسرح، عدا اليوميات والزوايا الأسبوعية، يحتاج الواحد منا إلى وقفة صغيرة في اللحظة الحرجة ليدخل إلى صومعة وليد إخلاصي الإنسان الكاتب، قبل أن يدخل من زاوية الأديب الذي ظلّ دائماً، رمز حلب العتيقة. إنه صارم في دقته وفي لحظات راحته، يسترخي قليلاً بين أحضان السيدة الجميلة “حلب”، المدينة، التاريخ التي أحبّت الكاتب كابن مدلّل فأعطته أسرارها، لا لشيء إلا لأنه دخلها من باب الجمر، فرش أمتعته في خان الورد وأخرج عدّته من قرطاس وأقلام وراح يرسم بالألوان البهيجة دار المتعة، ويؤرّخ في رواياته وقصصه لمشاهد المدينة، يسجّل ما يحدث لها وما تتعرّض له من ملاحم القتل الصغرى والكبرى، يترصد للحلزون العنيد ويقبع أمام بيت الخلد، يسجّل ملاحظاته ودراساته ليصل إلى المتعة الأخيرة، وهو ينثر أحزان الرّماد ويغنّي للممثل الذي يجلس وحيداً يرتّب أنشودة الحديقة.. نعم!! لقد كان ذلك على قطعة وطن، على شاطئ قديم ومهجور، يومها جلس الإخلاصي يقصّ حكايات الهدهد بحكمة ووقار كاهن بوذي لشتاء البحر اليابس.. حدث ذلك في زمن الهجرات القصيرة التي شهدت قتل العصافير وموت الحلزون، يومها حىمل الحنظل الأليف موته ومضى لرؤية الدماء في الصبح الأغبر وقد ارتسمت الدهشة في العيون القاسية. كانت الأعشاب السوداء تنبت في الحدائق العامة والطين يملأ كل العالم، من قبل ومن بعد.
في جلسات المقهى الثقافي، تلك التي يغلّفها الدخان الكثيف وأصوات الزبائن والقهقهات الرخيصة التي يفلتها أدباء منقطعون عن الموهبة، يجلس الإخلاصي كحكواتي من هذا الزمان، يسرد تاريخه الشخصي وتاريخ المدينة من خلال وقائع وأحداث، حصلت أو لم تحصل؛ وكما في الزير سالم وتغريبة بني هلال، فإنّ الكلام يجرّ كلاماً وتنتهي السهرة ويمضي الإخلاصي إلى موعد كتابته، وتظل الدهشة منتظرة قدوم الغد لمتابعة السيرة الإخلاصية. يسحبنا من أصابعنا إلى طفولته، إلى البدايات التي رسمت الملامح الأولى للكاتب، تراه يجذب الأحداث من غفوتها، ويبدأ من حلب المدينة الوقورة حيث تختلط جغرافية الطفولة بامتداد الذاكرة عبر الوراثة، في البيت العربي القديم الواسع والمشجرّ بالكباد والنارنج، تعبق في أرجائه رائحة شجر الليمون والزيزفون وعلى أطرافه أحواض الورد والفل والياسمين وفي وسطه تتدفق النوفرة من البحرة بأحاديث الأصدقاء والأقارب والأهل والجيران، قصص وحكايات يثرثر بها رذاذ الماء لفضاء المكان وللذاكرة التي راحت تختزن كل ذلك من خلال الأذن التي تعشق قبل العين أحياناً.
يتحدّث الإخلاصي عن المدن التي عاشها، كما يتحدث عن حبيبته التي هجرته وتركت القصة معلّقة على أغصان الأشجار، تلتف العصافير حولها وهي تواسيها.. وهكذا يكون الحديث عن الاسكندرونة حيث ولد، في البيت القريب من البحر. وعن حمص السكن الثاني التي لم يبقّ منها في الذاكرة سوى الجدران العالية، يقول وليد: “ابتدأ الوعي بالأمكنة في مدينة حمص، كنت أراها بعين الطفل فأجد جدرانها عالية جداً.. كنت أصغر إخوتي، ويبدو أن العاطفة والدلال منحا البيت العالي في حمص معنى المكان. وعندما صرت كبيراً كنت أمرّ بحمص فأحس بأن شيئاً ما قد ضاع مني”.
يظهر الحنين إلى المكان بشكل فاضح في روايته “زهرة الصندل” عندما يعيد الإخلاصي تشكيل المكان في بناء المنصورية، الحي المجاور للقلعة، وهو استعادة للطفولة بكل ما تحمله من طهر وبراءة ونقاء. وهذه الأمكنة تحمل سحرها وأسرارها في داخلها لتدافع عن نفسها باستمرار.
يبدو وليد إخلاصي شديد التأثر بشخصية والده، رجل الدين المتنوّر والمعجب بالأفغاني ومحمد عبده والذي كان يتوسّم في ولده البديل الجديد أو المثيل لهما، ممّا أيقظ في نفسه نوازع الخير وبشكل دائم ومعادل للإصلاح، ولكن الوعي المتزايد مع الأيام دفعه إلى أن يعتبر الخير يعادل التغيير. وقد تنامت تلك النزعة مع الأيام ومع تزايد الثقافة العلمية بمحاولة عقد زواج شرعي بين العقلانية المفرطة وبين التغيير الشاعري. ويعترف بقوله: “لا يزال يسكن في داخلي خيال مصلحين كبار في تاريخ البشرية. ولما كنت قد فقدت الإيمان بالتنظيمات السياسية العربية المعلنة في برامجها عن الإصلاح والتغيير، فقد توجهّت إلى الفن لكي يكون البديل عنها”.
في العام 1946 قرّر وليد إخلاصي، وكان في الحادية عشرة من عمره، أن يكون رئيس تحرير مجلة فأخرجها في 16 صفحة من القطع الكبير، وكان مديرها ورئيس تحريرها والمحررون والمخططون والمخرج. وعلى إثر ذلك وقع في غرام الكتاب الذي بات يستنزف كل مصروفه الشخصي ووقته، وراح يتمرّن على الكتابة بالرسائل العاطفية، له ولأصدقائه، وكان عليه أن يكتشف أن الكتابة فعل للتوصيل أقوى من أي فعل آخر. ولقيت بعض كتاباته تشجيعاً من أستاذيه: سليمان العيسى وخليل الهنداوي اللذين جعلا من منهاج الأدب جزءاً من جماليات الحياة.
لا يكتفي الإخلاصي بسرد الوقائع البهية، أحياناً يتحول إلى واعظ وطني ومرشد روحي، تجده يشتم ويسبّ كل ما من شأنه أن يسيء إلى صفحات الوطن النقية، وعندما يعود بذاكرته إلى خمسينيات القرن الماضي، يقول: “كان همنا الأكبر أن نعيش الشعور الوطني بأبعاده القومية والوحدوية وعندما فشل هذا المشروع كان البديل جاهزاً وتجلّى في الهم الاجتماعي، وعلى ما يبدو فإن الابتذال والسوقية والاستغلال وشرعنه السفالة الاقتصادية باتت هي الأمر الراهن، فخرجنا من مأزق العطالة الفكرية لندخل في نشاط توفرّت له أسبابه المذكورة فيما وصل إليه الحال”.
في البداية كنا نبحث عن كيان قومي، ثم أصبحنا نبحث عن كيان فردي يحمي الإنسان من كل أسباب التحقير والاستلاب والعذابات التي لا حدود لها. ويبدو أن مثل هذا الانتقال الحاد ما بين الكلي والجزئي هو سبب حقيقي في التدهور، لأن الحلم الوطني الكبير كان سيحقق حماية حقيقية لإنسان هذه المنطقة. وأعتقد أن المأزق الذي قادتنا إليه عملية استلاب الإنسان من الخارج والداخل قد أفقدنا متعة الحلم الكبير”.
يقول لك: “إنني أحذّر ولا أتشاءم، إنني أدعو باستمرار إلى اليقظة. والمجتمع العربي بشكل عام (منوّم) إمّا بقوى العودة إلى الماضي أو بالضغط اليومي المحلي أو العالمي وتكمن وظيفة الكاتب الحقيقي في الوقوف بوجه كل تلك الأسباب، أي الدعوة الدائمة إلى اليقظة. واليقظة في حالة المرض، تعني الصفعة في أبسط أحوالها. وعندما انكسر الحلم القومي العربي وسخّرنا الفن بديلاً للدفاع عن إنساننا، أحسّ أحياناً أن هذا الشخص الذي ندافع عنه غير مكثرث فيما نفعله من أجله. ولكن هذا الشعور لا يستمر طويلاً، إنه كحالات الحمّى المتناوبة، أنا مع تشاؤمي الكبير أحسّ في داخلي فسحة من التفاؤل، قد يكون سببها سذاجتي التي أحبها أحياناً”.
من خلال الإنصات الوقور إلى كاتب مثل وليد إخلاصي، يمكن أن نتعلّم أشياء كثيرة في فن الحديث وفن الحوار ولعبة إدارة الجلسات ومتعة الكتابة، ولكن في القضايا الجدية ذات الطابع الوطني والقومي والاجتماعي، يتحوّل إلى شخص آخر، يتحوّل الرجل الدمث الطيب الوديع إلى آخر شرس ومقاتل، يندفع إلى النهاية، وذلك لأنك اقتربت من حدوده المحرّمة…”.
“المثقف العربي الحقيقي هو ضد هذه الحالة المرضية. وبخاصة تلك التي تخصّ حدوده وجغرافيته، ولكنه أصلاً لا يمتلك أي فعالية وصمته هو صمت المقهور وهذا لا يبرّر له أن يقف موقف المتفرّج بل عليه أن يفعل شيئاً، أن يحمي نفسه من الإصابة المرضية المتفشية وينفر من طوق الإرهاب. وعلى المثقف أن يكون المدافع الأساسي والمراهن الوحيد على مسألة الديمقراطية شبه المفقودة في الوطن العربي؛ فبانتصارها تنحسر تلك الحالة الوبائية، وعليه باستمرار أن يدافع عن الديمقراطية كي يضع الأسس غير المباشرة للحدّ من سرطنة العنف والإرهاب”.
في أواخر الستينيات، تعرّفت على وليد إخلاصي من خلال عرض نصوصه في مسرح الشعب. وعبر رحلة طويلة تعرّفت عليه كاتباً وإنساناً يحمل قلباً كبيراً، واليوم كم أتمنى أن أتعرّف عليه أكثر.. أعتقد أنه حلمنا البديل الذي نسعى إليه جميعاً.